أسباب ودوافِع ترامب في فلسطين

قرار ترامب التاريخي في ذكرى مئوية إعلان وعد بلفور لم يكن فقط نتاج أنانيّته المُفرطة في تحقيق انتصارات لحظية، إنما جاء نتاج تدهور حال بعض الأنظمة العربية التي باتت تسعى إلى التطبيع وقبول الكيان الإسرائيلي كأمر واقع في المنطقة العربية.

تبرّع الملياردير اليهودي بمبلغ 20 مليون دولار إلى إحدى اللجان السياسية الانتخابية المؤيّدة لترامب

ساعة الحسم في الولايات المتحدة الأميركية بدأت في إعلان القدس عاصمة للكيان الصهيوني بعد أن اجتمعت جملة من العوامل والظروف داخلياً وخارجياً. فعلى المستوى الداخلي وتماشياً مع إصدار الكونغرس الأميركي عام 1995، في عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون قانوناً يقضي بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى مدينة القدس. 

وجدت إدارة الرئيس ترامب الفرصة السانِحة لوضع هذا الهدف موضع التنفيذ والسير قدماً نحو نقل السفارة إلى القدس بدلاً من تل أبيب. وذلك بتنفيذ أجندة الحملة الانتخابية لترامب بهدف زيادة شعبيّته لدى الناخِب الأميركي بعد أن تدنّت تلك الشعبية إلى أدنى مستوى لها منذ انتخابه رئيساً للولايات المتحدة. فالقرار يأتي في إطار حشد المؤيّدين لسياسات ترامب وخلق قاعدة جماهيرية مسانِدة له في مواجهة الضغوط الداخلية التي تعترض سياسته وتوجّهاته، إذ تتواجد جماعات ضغط قوية في الولايات المتحدة الأميركية، يحاول ترامب استمالة عطفها وتحويلها إلى مُناصرِة لسياساته الداخلية، علاوة على أن القرار يأتي تحقيقاً لرغبات المحافظين من الجمهوريين البروتستانت الذين يشكّلون 25% من القاعدة السياسية لترامب. إضافة إلى إرضاء اللوبي الصهيوني في أميركا ففي آذار/ مارس 2016، ألقى ترامب خطاباً أمام لجنة الشؤون العامة الأميركية - الإسرائيلية "إيباك"، تعهّد فيه بنقل السفارة الأميركية إلى "العاصمة الأبدية للشعب اليهودي". وبعد ذلك الخطاب انحاز الملياردير اليهودي، شيلدون أديلسون، مالِك الكازينوهات الشهير (الذي أُطلِق اسمه على حيٍ في القدس الشرقية بعد الاحتلال مباشرةً)، والداعِم للجمهوريين، إلى دعم حملة ترامب للرئاسة، وتبرّع بمبلغ عشرين مليون دولار إلى إحدى اللجان السياسية الانتخابية المؤيّدة لترامب، ثم تبرّع مرةً أخرى بقيمة مليون ونصف المليون دولار لتنظيم مؤتمر الحزب الجمهوري الذي أعلن ترامب رسمياً مرشّحاً رئاسياً له.

أما على المستوى الخارجي؛ فقد لعبت حال الانقسام والتشرذُم والتفكّك التي تعاني منها العملية السياسية في فلسطين، التي أسهمت في غياب الرؤية حول آلية حل الصراع الفلسطيني-الصهيوني. إضافة إلى حال الضعف والمُهادنة التي اتّسم بها أغلب الأنظمة السياسية العربية والإسلامية، ما ترتّب عليه خروج بعض الدول العربية عن قاعدة الإجماع العربي والإسلامي والارتهان للسياسة الأميركية، والقبول بالوجود الإسرائيلي، حيث وصل الأمر ببعض تلك الأنظمة إلى المُجاهرَة علناً بأهمية التطبيع والتقارُب مع الكيان الصهيوني.

علاوة على أن المسألة الفلسطينية لم تعد على سلّم أولويات البيانات والقرارات الصادرة عن الجامعة العربية، ولا سيما القمم العربية بشأن قضية القدس والتهويد القسري المُمارَس ضدّها. وهو ما شجّع الولايات المتحدة الأميركية على اتخاذ خطوات أحادية في طريق تصفية القضية الفلسطينية. ومن غير المُستبعد وجود اتفاق أميركي مع بعض القوى الإقليمية ولا سيما الحليفة لها، للسير في هذا التوجّه على الرغم من الأصوات الرافِضة والمندّدة لهذا القرار.

لكن القرار الذي اتّخذه الرئيس الأميركي ترامب في حال المضيّ بتطبيقه ربما تظهر تأثير ارتداداته في أميركا منها:

1- التراجُع الاستراتيجي للدور الأميركي في الصراع الفلسطيني-الصهيوني، لاسيما بعد السيروة الإقليمية والدولية الرافضة للقرار، ودعت خمس دول حليفة للولايات المتحدة (بريطانيا وفرنسا وألمانيا والسويد وإيطاليا) إدارة ترامب إلى طرح اقتراحات تفصيلية للتوصّل إلى تسوية بين إسرائيل والفلسطينيين، إضافة إلى تعاظم الدور الروسي في المنطقة بعد حسم الحرب في سوريا.

2- يعزل هذا الاعتراف الولايات المتحدة الأميركية دولياً، ويحوّلها إلى دولة لا تُقيم وزناً للقانون الدولي ولا لقرارات مجلس الأمن، التي أجمعت على اعتبار القدس الشرقية أرضاً محتلة، ورفضت على مدى عقود الاعتراف بضمّها إلى إسرائيل (دان مجلس الأمن إعلان إسرائيل القدس عاصمتها الموحّدة سنة 1980). وظهرت العزلة الأميركية بوضوح خلال الاجتماع الأخير الذي عقده مجلس الأمن لمناقشة الاعتراف الأميركي، حيث كانت المندوبة الأميركية نيكي هايلي وحيدة في موقفها المُدافِع عن قرار ترامب، وفي حملتها على المنظمة الدولية بتهمة "انحيازها" ضد إسرائيل.

3- تعرّض المصالح الأميركية للمخاطر الأمنية مثل السفارات، ومكاتب التمثيل، خاصة في ظل حال اليأس والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السيّئة، والصراعات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط منذ سنوات.

4- تدهور علاقات الولايات المتحدة الأميركية مع دول الاتحاد الأوروبي، ويظهر ذلك جلياً بعد تصريحات رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك.

 إن قرار ترامب التاريخي في ذكرى مئوية إعلان وعد بلفور، لم يكن فقط نتاج أنانيّته المُفرطة في تحقيق انتصارات لحظية، وإنما جاء نتاج تدهور حال بعض الأنظمة العربية، التي باتت تسعى إلى التطبيع وقبول الكيان الإسرائيلي كأمر واقع في المنطقة العربية. وقد يفرض على الجانب الفلسطيني حيال هذا الإعلان رسم خطّة وطنية قوامها عدم الاعتراف بالكيان الإسرائيلي، رفض فكرة التسوية على حدود عام 1967 والمطالبة بتحرير الأراضي المحتلة عام 1948. وذلك عبر استثمار حال الاصطفاف العربي والإسلامي حول رفض قرار ترامب.