الفلوجة: معركة التحرير ومعركة التجريح
ارتفع منسوب التفاؤل قليلاً مع الأخبار الجيدة من الميدان في المراحل الأولى من معركة تحرير الفلوجة، لكن التوجس كان قد بدء قبيل بداية المعركة التحرير، ومع انطلاق "معركة التجريح" من المحور الدولي والعربي الداعم للإرهاب التكفيري.
بدأت الحملة السياسية والإعلامية المضادة قبل انطلاق العملية العسكرية وفور الإعلان عنها (أ ف ب).
علمتنا الخمس العجاف من عمر عالمنا العربي أن نفرح
إلا قليلا، وأن نتفاءل إلا قليلا مع كل خبر جيد من الميدان، حتى لا تذبحنا الغصة مع
خبر سيء يعقبه، وقد بدأنا بالتفاؤل إلا قليلا مع إعلان رئيس الوزراء العراقي
"حيدر العبادي" في ٢٢ مايو/أيار انطلاق معركة تحرير الفلوجة بمشاركة الجيش
العراقي والحشد الشعبي والشرطة الاتحادية وعشائر الأنبار، وارتفع منسوب التفاؤل قليلا
مع الأخبار الجيدة من الميدان في المراحل الأولى من المعركة، لكن التوجس كان قد بدء
قبيل بداية المعركة التحرير، ومع انطلاق "معركة التجريح" من المحورالدولي
والعربي الداعم للإرهاب التكفيري، فبرغم تأمين منافذ لخروج المدنيين، وبرغم إخطارهم
المسبق بالعملية عبر بيان لخلية الإعلام الحربي العراقية، ورغم طلب الجيش من المواطنين
ممن لم يتمكنوا من الخروج وضع رايات بيضاء على منازلهم، وهي التدابير التي قللت عنصر
المفاجئة وزادت من فرصة الدواعش وحلفائهم في صد الهجوم، وبرغم الواقع المعروف من تحصن
داعش داخل الأحياء السكنية، برغم كل هذا لم يتورع المحور المضاد في بث حملات التجريح
على معركة التحرير الحتمية والضرورية كمعركة مفتاحية لمعركة تحرير نينوى من نير الإرهاب!
بدأت الحملة السياسية والإعلامية المضادة قبل انطلاق
العملية العسكرية وفور الإعلان عنها، فقد نشرت الجزيرة في ٢٣ مايو/أيار نفسه على لسان
"عبد الرازق الشمري"، الذي يطلق على نفسه "الأمين العام لتجمع القوى
الرافضة للتدخل الإيراني" تحذيرا "مسبقا" من انتهاكات الحشد الشعبي
لحقوق المدنيين! وقالت المدعوة "لقاء وردي" من نفس التحالف أنها ترفض وجود
الحشد الشعبي في المعركة! ومع بداية العملية انطلق الإعلام السعودي-القطري-التركي بأقصى
سرعة في حملة التشويه والتجريح المتصاعدة، حتى صرح رئيس مجلس النواب العراقي
"سليم الجبوري" في ٢ يونيو/حزيران أن هناك معلومات تشير إلى بعض التجاوزات
التي ارتكبها أفراد في جهاز الشرطة الاتحادية وبعض المتطوعين أدت إلى انتهاكات بحق
مدنيين، هذه الأفعال تسيء إلى التضحيات التي يقدمها هذا الجهاز وجميع القوات المقاتلة
في معركة الفلوجة"، ورغم أن التصريح لم يتحدث عن الحشد الشعبي خاصة، بل عن المتطوعين
بصفة عامة، ورغم اعترافه بالتضحيات التي يقدمها المتطوعون وقوى الأمن، غير أن خلفية
"الجبوري" نائب الحزب الإسلامي العراقي (الإخوان المسلمين) سابقا، تدل على
الرسالة المطوية في تصريحاته، والتي تلقفها الإعلام المعادي بالتضخيم بطبيعة الحال.
ولم يقتصر الأمر على الكلام وتجاوزه للغة النيران،
فقد نشرت الجزيرة نفسها في ٣١ مايو/أيار على لسان شاهد عيان من قوى الأمن خبر قصف قوات
التحالف الدولي لقوات الحشد الشعبي التي كانت تتجهز لدخول حي الشهداء في الفلوجة!
فلنتصور معا وضع القوات العراقية المقاتلة في معركة
الفلوجة وفقا لتلك المعطيات:
(١) الهدف هو تحرير مدينة صغيرة نسبيا، ومكتظة بالسكان،
يتحصن الدواعش وحلفاؤهم بالأحياء السكنية فيها، ويعيقون بكل الطرق خروج العائلات المدنية
من المدينة!
(٢) التنسيق بين القوات يتم
عبر غرفة عمليات مشتركة، لكن تركيبة القوات فضفاضة لتعدد التبعيات القيادية بينها لابد
أن يكون عاملا معيقا رغم التضحيات والبطولات والبسالة التي أبدتها القوات خلال ثلاثة
أيام من القتال استعدادا للمعركة الحاسمة، وفي معارك الصقلاوية وغيرها.
(٣) توازنات السياسة الداخلية
العراقية داخليا، والتوازنات الإقليمية والدولية تدخلت بالفعل في توزيع المهام القتالية،
فاقتصر دور الحشد الشعبي على الإسناد والتطويق وعدم دخول المدينة حرصا على عدم إثارة
النعرات الطائفية! ثم تقول نفس المنابر أن الحشد الشعبي دخل وسيطر على أحياء وفعل كذا
وكذا! وتقول أن التحالف الدولي قصفه لوقف تقدمه!
(٤) كل مقاتل في القوات العراقية
المشتركة يشعر أنه متهم سلفا بأنه مصاص دماء، يدخل الفلوجة ليفسد فيها ويسفك الدماء،
ويعكر على المدنيين الآمنين صفو علاقتهم العاطفية الهادئة مع الدواعش والتكفيريين.
(٥) هناك ود مفقود بين اللواء
الركن "عبد الوهاب الساعدي" المكلف بقيادة المعركة وبين قوات الحشد الشعبي
على خلفية تصريحات سابقة.
(٦) تدرك ميليشيات الدواعش
أن نجاح العراق في معركتي الموصل والفلوجة سيكون مفصليا في تحرير نينوى وتحطيم أسطورة
التنظيم المختلق للأبد، فتقاتل باستماتة، وتزيد من تمترسها بالمدنيين في آن.
(٧) القائد السياسي الذي اتخذ
القرار وهو "العبادي" يعرف أنه متهم سلفا بأنه يشن الهجوم للتشويش على التظاهرات
والواقعة المتكررة باقتحام المنطقة الخضراء، وكأن تحرير الوطن من يد الإرهاب بعد إتمام
الاستعداد يحتاج لمبررات إضافية.
هكذا كانت المحصلة النهائية هي قرار رئيس الوزراء
"حيدر العبادي" في أول يونيو/حزيران بالتهدئة من سرعة عملية الهجوم على الفلوجة
رغم إتمام محاصرتها وقطع طرق الإمداد والسيطرة على ضواحيها وتخومها، وذلك لتلافي الخسائر
في صفوف المدنيين، وتم هذا رغم اعتراض الحشد الشعبي الذي قال المتحدث باسمه أن
"الانتظار انتحار"! ثم توالت الأخبار عن استمرار المعارك في أطراف الفلوجة،
فهل كان قرار "العبادي" تكتيكيا لتهدئة قصف التشويه المضاد، ليتيح للقوات
الاستمرار في مهامها بهدوء أكبر؟خاصة وقد نشرت قناة العالم تصريحات إيجابية لقادة الحشد
الشعبي في ٣ يونيو/حزيران حول استمرار المعارك والتقدم فيها؟
وبعد، فأنا مدرك تماما للضغوط التي تعرض لها متخذ
القرار، والأعباء النفسية التي تحملتها القوات المشاركة التي لا تحظى من "القواعد
من الرجال" بغير اللوم والتقريع، لكن التأجيل يحمل بالمقابل نجاحا للمحور المضاد
في الوصول لهدفه بمد عمر الذراع التكفيري لشهور أو سنوات إضافية، وكسب معركة إعلامية
شنها! لهذا أرجو أن يكون القرار تكتيكيا وأن ينحسر الضجيج في النهاية عن فلوجة محررة
وعائدة لوطنها العراقي، فهي نقطة هامة اليوم بيد التنظيم التكفيري لا تبعد عن العاصمة
أكثر من ٥٠ كيلومترا، وهي على الأرجح نقطة انطلاق العمليات الانتحارية لتهديد العاصمة،
فبماذا سيأتينا الغد؟