السعودية والقومية العربية؛ من العداء إلى محاولة الامتطاء!
وثيقة المؤتمر المخابراتي الذي انعقد في القاهرة بتاريخ ٢٣ مارس/آذار ١٩١٨م، والتي أفرج عنها في الستينيات تقول بوضوح أن بريطانيا كانت مستقرة مبكرا على أن الحليف الدائم هو "ابن سعود"، وبمعونتها رجحت كفته عسكريا! وكانت اللهجة التكفيرية سائدة في المشروع السعودي.
المشكلة في التوجه التكفيري أنه يعتمد بالأساس على نفي كافة الهويات غير الهوية الدينية.
عندما بدت ملامح سقوط الدولة العثمانية في مطلع القرن
العشرين، وقبيل أن تسقط رسميا في أكتوبر/تشرين ثاني ١٩٢٣م، تزايدت وتيرة التنافس
بين الأسر ذات النفوذ في المنطقة العربية، والتي كانت جميعها على تواصل مع الدولة
البريطانية، تحاول كل منها الحصول على مباركة بريطانية ترث بها الخلافة الإسلامية،
وكان أبرز تلك الأسر "الشريف حسين" وعائلته (آل عون) ذات النفوذ في
الحجاز والاتصالات الوثيقة بزعماء الهلال الخصيب، والأسرة العلوية في مصر بقيادة
الملك "فؤاد" وقتذاك والتي تحكم أكبر بلد عربي، وأسرة "آل
سعود" وزعيمها "عبد العزيز ابن سعود" ملك نجد وقتذاك.
وبينما فرضت الأصول التركية للملك فؤاد عليه ألا يدعم
حقانيته في الخلافة بدفوع عربية، وبينما استغنى "عبد العزيز بن سعود" عن
الدفوع العربية، إذ لن تجدي ضد منافسيه الرئيسين على النفوذ في الخليج وهما
"آل الرشيد" و"آل عون"، ولن تفيد بظل عدم التعدد الطائفي في
الجزيرة، أدرك "الشريف حسين" أن هناك حسا قوميا عربيا يتشكل في منطقة
الهلال الخصيب على خلفية مظالم التتريك العثماني، فطعم دفوعه المرتكزة على الإسلام
وفكرة الخلافة بدفوع عربية، لم يكن صانعها ولا مؤسسها ولكنه شملها في مشروعه!
وبينما خرج "فؤاد" من المنافسة سريعا، رغم عقده لمؤتمر القاهرة في ٢٥
مارس/آذار ١٩٢٤م للمناداة به خليفة بمعونة مشيخة الأزهر، نظرا لتنامي المعارضة
الشرسة التي واجهها داخل مصر لفكرة الخلافة من مجتمع كان علمانيا بعمق بذلك الوقت،
فانحسرت المنافسة بين "عبد العزيز بن سعود" و"الشريف حسين"!
وبينما كانت السياسة البريطانية متوازنة بين الاثنين
ظاهريا، غير أن وثيقة المؤتمر المخابراتي الذي انعقد في القاهرة بتاريخ ٢٣
مارس/آذار ١٩١٨م، والتي أفرج عنها في الستينيات تقول بوضوح أن بريطانيا كانت
مستقرة مبكرا على أن الحليف الدائم هو "ابن سعود"، وبمعونتها رجحت كفته
عسكريا! وكانت اللهجة التكفيرية سائدة في المشروع السعودي.
ولنأخذ مثلا ما قاله "عبد العزيز" في الرسالة
التي نشرها مستشاره "حافظ وهبة" في كتابه "خمسون عاما في جزيرة
العرب"، وجاء فيها "أما الحسين فقد توجه إلى جدة، وغالب الكفار من أهالي
مكة أخلوها من الرعب والباقون بها مرجف بهم، أما المسلمون فلم يستشهد منهم سوى
سبعة عشر وكلهم من عامة الناس".
وبهذا الترجيح انهار المشروع الخلافوي ذي النفس العروبي
(رغم تناقض الفكرتين وعدم العمق العروبي للمشروع) وانتصر المشروع السعودي ذي النفس
التكفيري!
والمشكلة في التوجه التكفيري أنه يعتمد بالأساس على نفي
كافة الهويات غير الهوية الدينية، فيجعل الوطن حفنة من تراب لا قيمة ولا انتماء
لها، ولكن الدولة السعودية واجهت بعد
مرحلة استقرار الحدود ضرورة تشكيل هوية وطنية لنفسها، ولهذا تخلص "عبد
العزيز" من جيش الإخوان الذي كان ذراعه التكفيري في مواجهة خصومه المحليين!
ولهذا صارت علاقة الأسرة المالكة بالمؤسسة الدينية التي أنشأتها وهي هيئة الأمر
بالمعروف علاقة يشوبها التوتر حينا بعد حين!
وعليه، فقد تأسست الدولة السعودية الثالثة عام ١٩٣٢م،
فأبعدت الجزيرة العربية عن حالة عروبية كانت تتشكل في سوريا الكبرى والعراق، ولكن
هذا لم يكن السبب الوحيد في العداء السعودي المستمر عبر أكثر من نصف قرن مع الفكرة
القومية العربية، فالقومية العربية تأسست
كحالة قومية ذات توجه يساري اشتراكي في مجملها - خلافا للحركات القومية الأوروبية
اليمينية، ذلك أن الأولى نشأت في المستعمرات وعلى أنقض أنظمة ملكية تقليدية فلم
يستوعبها غير اليسار، بينما نشأت الثانية في إمبراطوريات تعتنق فكرة تفوق الجنس
وتميزه!
هذا التوجه اليساري للقومية العربية لم يتح للمملكة
السعودية فرصة للتماهي معها كما تماهت بعد نشأتها مع الفكرة الوطنية نسبيا! فكانت
الخصومية حتمية!
كانت العلاقة الودية بين مصر الناصرية وبين السعودية
ابتداء في مرحلة الغموض، والتي لم تتمكن حتى مخابرات الدول العظمى وقتها تحديد
هوية النظام المصري الجديد ذي الخلفية العسكرية، فبرغم عدم رضا السعودية عن فكرة
إطاحة الجيش بالنظام الملكي في مصر، إلا أنها تعاملت مع الأمر في البداية كأمر
واقع لابد منه! ولكنها كانت سنوات قصيرة سرعان ما انتهت مع وضوح توجه الدولة
المصرية القومي والاشتراكي، ونداء بترول العرب للعرب، وجاءت الوحدة مع سوريا لتحسم
الأمر وترسخ النزاع! وزادت حدته مع احتدام خلاف الدولة المصرية وقتها مع الولايات
المتحدة، ووصل الصراع البارد لمرحلة الالتهاب في اليمن، وتم تبريده ثانية بصفة
مؤقتة بعد نكسة يونيو/حزيران ومؤتمر الخرطوم، لكنه بقي ببقاء الزعيم الراحل "جمال
عبد الناصر"، ولم يضمحل إلا بوصول خلفه الرئيس "السادات" للسلطة،
بتوجهات غير اشتراكية وغير قومية.
ثم اختفت نزعة الهجوم السعودي على الفكرة القومية - وإن
بقي الهجوم على زعيمها ورمزها - مع قيام الثورة الإيرانية في ١٩٧٩م، فقد تأسست على
الضفة الأخرى من الخليج دولة دينية جديدة هي إيران، ومذهبها هو مذهب قطاع واسع من
سكان شرق الخليج!
القومية العربية التي نعرفها تعتبر أن بالمنطقة ثلاثة
قوميات كبرى هي العربية والفارسية والتركية، فضلا عن قوميات أصغر كالكردية
والأمازيغية، وأن التنافس أمر طبيعي بين تلك القوميات، لكنها تقصر العداء على
القومية الدخيلة التي لم تولدها حركة التاريخ في جغرافيا المنطقة، ولكن صنعها
الاستعمار صنعا، وهي القومية الصهيونية المرتكزة على خلفية دينية وليس على خلفيات
جغرافية وثقافية وتاريخية، والقومية التي نعرفها اشتراكية الجوهر، والقومية التي
نعرفها ضد الدولة الدينية أيا كان مذهبها أو شكلها! ولهذا لم تكن قوميتنا العربية
بالتوجه الذي يخدم حالة العداء الجديدة بين المملكة وخصمها الأكبر حاليا وهو
إيران، فهي قومية واضحة في توجهها ولا تقدم عدوا على الصهيوني! وهنا كان لا بد من
اصطناع صرعة قومية (وليس فكرا قوميا) على أن تلبي تلك الصرعة القومية عدة أهداف
للمملكة:
(١) تقدم العداء للقومية الفارسية القديمة
والمستقرة عبر الزمن على العداء للصهيونية المغروسة في منطقتنا العربية.
(٢) لا تنتهج منهجا اشتراكيا يزيد من وعي
الجماهير بالتحدي الحقيقي الذي تواجهه شعوب المنطقة.
(٣)
تنتقد الدولة الدينية في إيران ولا ينتقدها على الجهة الأخرى من الخليج في
السعودية.
(٤) تستوعب عند اللزوم شعارات طائفية.
(٥) لا تنتهج فكرا "وحوديا"
كالأفكار القومية العتيقة ولا فكرا "اتحاديا" كالأفكار القومية الأحدث،
ولكنها تنتهج فكرا "تكافليا" لو جاز التعبير.
وعليه، فهناك صرعة قومية جديدة تتشكل في المنطقة بهذه
المواصفات، وتمارس معها السعودية سياسة الرعاية والامتطاء، مقابل العداء الذي
واجهت به السعودية الفكرة القومية العربية في صيغتها الناصرية والبعثية على
السواء، وتعتمد في ترويج ذاتها على الخلط بين الفكرة القومية كنطاق تعاون
استراتيجي بين الشعوب العربية، وبين الصرعة العنصرية، ولكنها ستبقى بتقديري كصرعة
لا يمكن أن تتحول إلى فكرة، لأنها تحمل في ذاتها بذور فنائها! ولكن لهذا حديث قادم.