السودان والتباكي على المجد الذي كان.. عندما تتقمصنا روح العدو!

لقد اختار السودان بإرادة حرة الاستقلال عن مصر، وكان هذا حقاً مشروعا له! فللسودان كما لمصر تاريخ وثقافة يعتز بها، وقد كان أعظم السمات الحضارية للدولة المصرية في وهج قوتها بمصر القديمة أنها لم تكن توسعية بطبيعتها، فكان ملوك مصر القديمة يعدون الحملات لتأمين الحدود ولكن ليس لفرض هيمنة على شعوب مجاورة، فلا يليق بنا اليوم أن نتبنى لهجة التركي العثماني أو المستعمر الأوروبي مع شعب شقيق.

دعمت مصر الوحدويين في السودان بزعامة اسماعيل الأزهري
لطالما تباكى بعضنا في مصر على السودان (كأنه فلسطين السليبة)، وترحموا على العهد الملكي الذي كان فيه "مولانا المعظم" ملكاً لمصر والسودان، والحقيقة أن التباكي في هذه الحالة خليق بأن يتم على "حائط المبكى"! إذ يمثل حالة من إعادة إنتاج المقهور للقهر، وتقمص روح عدوه لجسده، لأنه يتبنى فيه - بوعي أو بغير وعي - منطق القوة والغلبة بالسيف، وهو ذات المنطق الذي رفضه بالأمس عندما قال به المستعمر الأوروبي، ويرفضه اليوم عندما يقول به العدو الصهيوني! لأنه منطق غير أخلاقي! لكن يبدو أن المعيار الأخلاقي عند بعضنا يعتمد على موضعه من السيف؛ هل يقبض بكفه على قائم السيف؟ أم يستقبل بصدره المتن؟!! لست ألوم "محمد علي باشا" قطعاً على ضمه السودان في العقد الثاني من القرن التاسع عشر! فقد كان مؤسس مصر الحديثة ابناً لزمانه، وحاكماً فذاً بمعايير ذلك الزمان، بما في ذلك المعيار الأخلاقي المستقر لشرعية الغلبة بالسيف، والذي لم تتجاوزه البشرية - نسبياً - إلا في مطلع القرن العشرين! وكان الباشا متسقاً كل الاتساق مع مشروعه الإمبراطوري قبل أن تقوضه أوروبا! ولكني بميلة مقابلة، أتعاطف تماماً مع الثورة التي قادها الزعيم السوداني "محمد بن عبد الله بن فحل" الملقب بالمهدي! فبرغم استغلال المهدي للعاطفة الدينية لكسب المؤيدين، غير أنه ثار بالفعل على مظالم حقيقية!! فلا يمكنني هنا تقمص نفسية وذهنية السيد الأوروبي الأبيض واتهام هكذا ثورة بأنها استغلت الاحتلال الإنجليزي لمصر لتقتطع بعضاً من حقوقنا الإمبراطورية!!! فقد قاومت ثورة المهدي الإنجليز وقتلت الحاكم العام الإنجليزي "جوردون" كما قاومت الهيمنة المصرية، وهكذا ثورة هي حق أصيل لكل إنسان عبر الأزمان وبمعيار أخلاقي لا يتغير ولا يشيخ.

من "محمد علي" إلى "توفيق"؛ قوة السيف وقوة العقيدة

لم يعتمد "محمد علي باشا" في ضم السودان إلا على القوة العسكرية وحدها! فما كانت مزاعم الخلافة والانضمام للواء أمير المؤمنين العثماني لتخدمه، وهو نفسه في حالة صراع مكتوم ومؤجل مع الباب العالي! هكذا ضم الباشا المؤسس شمال السودان عدا دارفور في 1822م، لكن حفيده "الخديوي إسماعيل" اعتمد على القوة العسكرية وقوة العاطفة الدينية في آن، فاستمال النخب السودانية لمساعدته في ضم دارفور وجنوب السودان غير المسلم، بوصفه ممثلاً للخليفة أمير المؤمنين، وهكذا أعانه القائد السوداني "الزبير ود رحمة باشا" وجنوده في ضم دارفور في أكتوبر/تشرين أول 1874، وهكذا انضم أبناء شمال السودان لجيشه في ضم الجنوب في 1875.
لكن تلك المعادلة بين القوة المادية والعاطفة الدينية اختفت عندما أتى "الخديوي توفيق" بالإنجليز لمصر واستعان بهم على كسر الثورة العرابية، فهنا انقضت مزاعم "ولي الأمر المسلم" من جانب، وتضعضع الجيش المصري من جانب! وهو ما أعان الدعوة المهدية التي بدأت في 1880م على الانتشار بسرعة لتكتسب زخمها المتزايد، فلم يمر عام 1885م إلا والعاصمة الخرطوم قد سقطت بيدها، والحاكم العام الإنجليزي "غوردون" قد قتل، وأعلن المهدي نقل العاصمة لأم درمان، واستمرت دولته ودولة خلفه "عبد الله التعايشي" حتى احتل الإنجليز السودان من جديد في 1899م. هكذا انقضت السيادة المصرية على السودان حقيقة، واستمرت اسمياً، وظهر ما عرف تاريخياً باسم "السودان الإنجليزي المصري"، ووقعت مصر المحتلة مع المحتل اتفاق إذعان يقضي بأن تعين بريطانيا حاكماً عاماً بريطانياً وتعين مصر نائباً شرفياً مصرياً، وعلى هذا استقر الحال حتى قيام ثورة يوليو بمص! ولست أرى في هذا الوضع مجداً تليداً كما يدعون، ولكني أرى شعبين يعانيان تحت نير المحتل، ويستخدم أحدهما بوصفه قوة احتلال ثانوية للآخر، وإن كان هذا صورياً.

ثورة يوليو وانفصال السودان

قبيل قيام ثورة يوليو، وفي 8 مايو/أيار 1952م، أرسل الحاكم العام للسودان السير "روبرت هاو" مشروعاً باسم "قانون الحكم الذاتي وتقرير المصير" إلى الحكومة المصرية، وأعطاها مهلة ستة أشهر وإلا صار نافذاً، ولا يحق لها الاعتراض عليه، وكان استقلال السودان فيه صورياً حيث نص المشروع صراحة على أن الحاكم العام البريطاني هو أعلى سلطة دستورية، فكان المشروع في مجمله يفصل السودان عن مصر ولا يعطي للسودانيين حقهم في تقرير مصيرهم.
وبقيام ثورة يوليو تم تحويل المشروع لها، فاجتمع مجلس قيادة الثورة في نوفمبر/تشرين ثاني 1952م برئاسة "محمد نجيب" لمناقشة الأمر، واستقر الرأي على رفض المشروع رسمياً والإصرار على تقرير مصير حقيقي لشعب السودان! وتواصلت حكومة الثورة المصرية مع كل التيارات في السودان واستقبلت زعماء التيارات الانفصالية والوحدوية على السواء، وتمكن الرئيس "محمد نجيب" بخصوصية علاقته بالسودان بحكم النسب والنشأة من توحيد الأحزاب المنادية بوحدة وادي النيل في حزب الاتحاد الذي أعلن قيامه بمنزله في القاهرة يوم 3 نوفمبر/تشرين ثاني 1952م. وفاوضت حكومة الثورة الإنجليز حتى وقعت معهم في فبراير/شباط 1953م اتفاقية نصت على تقرير مصير كامل للشعب السوداني من خلال جمعية تأسيسية تشكل بعد ثلاث سنوات من الحكم الذاتي للسودان تنقضي في 1956م، وتقرر تلك الجمعية مصير الوحدة مع مصر من عدمها، وشكل الوحدة التي يقبلها ويقرها السودانيون. نعم، لم يكن بيد ثورة يوليو أن تناقض نفسها وهي من تطالب الإنجليز بالجلاء عن مصر، فتطالب بحقوق مصرية لا مساس بها في السودان رغم أنف شعبه! نعم لقد دعمت مصر الثورة الوحدويين في السودان بقيادة "إسماعيل الأزهري"، فكانت النتيجة هي فوز التيار الوحدوي في انتخابات الحكم الذاتي في 1953م، لكن التيار الانفصالي لم يكن ضعيفاً، فقد استقبل أتباع "عبد الرحمن المهدي" الرئيس "محمد نجيب" بحشود مسلحة في مطار الخرطوم، وبهتاف "لا مصري ولا بريطاني السودان للسوداني"، ودارت أحداث سياسية معقدة، كان منها خروج الرئيس "محمد نجيب" من السلطة، وكان منها محاولة الوحدويين استرضاء الانفصاليين بوضع شروط صعبة التحقيق في سبيل وحدة وادي النيل، فتغيرت توجهات "إسماعيل الأزهري" الوحدوية، حتى تجاوز موضوع الجمعية التأسيسية وأعلن في البرلمان السوداني في 1 يناير 1956م استقلال السودان من طرف واحد، فأرسل الرئيس "جمال عبد الناصر" برقية يعترف فيها باستقلال السودان! كما اعترفت به بريطانيا. لقد اختار السودان بإرادة حرة الاستقلال عن مصر، وكان هذا حقاً مشروعاً له، فللسودان كما لمصر تاريخ وثقافة يعتز بها، وقد كان أعظم السمات الحضارية للدولة المصرية في وهج قوتها بمصر القديمة أنها لم تكن توسعية بطبيعتها، فكان ملوك مصر القديمة يعدون الحملات لتأمين الحدود ولكن ليس لفرض هيمنة على شعوب مجاورة، فلا يليق بنا اليوم أن نتبنى لهجة التركي العثماني أو المستعمر الأوروبي مع شعب شقيق.