روسيا والغرب.. عودة "العازل الحديدي"

في زمنٍ ترتفع فيه حدة الصراع الدولي في أكثر من ملفٍ شائك، تبرز عودة مصطلح "العازل الحديدي" للاشارة الى عودة الصراع بين الغرب وروسيا الذي بات أمراً واقعاً في ظل عودة الحرب الباردة بين القطبين الأقوى في العالم.

عودة العازل الحديدي
هذه الحرب التي تبدأ من أعماق البحار وصولاً الى الفضاء وما بينهما في المجالات كافةً. في السابق كان إعلان بدئها الرسمي عبر بريطانيا التي كانت الحليف الأقوى لواشنطن في القارة العجوز، أما اليوم فألمانيا هي التي تلعب هذا الدور في التصدي  "لروسيا والجنوح في تهديدها في عمق أوروبا"، بحسب المنطق الغربي.

بدء التمدد الروسي في نظر الغرب كان بارزاً في بولندا حين دخلها الجيش السوفياتي للمرة الثانية قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية وبقيت الهيمنة السوفياتية حتى سقوط الاتحاد، أما اليوم فأميركا وحلفائها يراقبون بحذرٍ شديد ما يجري في القرم وأوكرانيا ودول الجوار الروسي.

وبالرغم من محاولة الولايات المتحدة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي إلهاء موسكو بالصراعات في البلدان المحيطة عبر "الجهاديين" واعادة استنساخ تجربة افغانستان في الشيشان، وعبر المعارضين للنفوذ الروسي في كل من جورجيا وأفغانستان اضافة الى الصراع الدائم بالوكالة بين ارمينيا وأذربيجان، الا ان موسكو استطاعت ان تعود الى الساحة الدولية من باب سوريا واوكرانيا بشكل اساسي، وأوقفت المخططات الاميركية في هذين البلدين بجدارتها الديبلوماسية وقدراتها العسكرية المباشرة وغير المباشرة.

أسباب الصراع القديم الجديد

ولعل أبرز أسباب تنامي الغضب الشعبي الروسي تجاه الغرب تمثل في الحالة الاقتصادية الرديئة التي وصلت الى ذروتها في عهد بوريس يلتسن، وفي تراجع النفوذ الروسي السياسي على الساحة الدولية. ولعل أبرز إنجازات بوتين كان إعادة هيبة روسيا من خلال العمل على البيت الداخلي منذ العام 2000، ومن ثم انتقل سيد الكريملين الى إعادة قوى روسيا الخارجية لتتناسب مع النظام العالمي الجديد الذي وضعته أميركا، ومحاولته كسره فيما بعد.

في الاقتصاد والأيديولوجيا والجيوستراتيجيا

مجالات متنوعة للنشاط المشترك
 منذ انهيار الاتحاد السوفياتي والنظام الاشتراكي في روسيا، اعتمدت موسكو نظام الاقتصاد الموجه الذي اشتهر فيه الرئيس الحالي فلاديمير بوتين، ورغم انه لا يتعارض مع النظام الرأسمالي الحر السائد في الولايات المتحدة، إلا أنه في إطار عودة التوتر بين البلدين تحاول موسكو إظهار نظامها الاقتصادي على أنه الأفضل، وخصوصا فيما يتعلق ببيع الأسلحة مستفيدة من خطة هنري كيسنجر صديق الرئيس الروسي الحالي.

ولعل التشابه بين فكر الدولتين، ومحاولتها السيطرة على العالم في السابق، جعل الصراع يحتدم  في اكثر من مجال، أما اليوم فعودة التوتر يرتبط بشكل مباشر بتصاعد دور روسيا في العالم، الذي استطاع بوتين، في أكثر من حادثة أن يجبر البيت الابيض على معاملته كند (سوريا-الملف النووي الايراني -أوكرانيا وجورجيا).

ثم ان الوضع في ليبيا وما أقدم عليه الغرب من اقصاء للدور الروسي، دفع بموسكو لنفض الغبار عن قوتها والوقوف بشكل مباشر مع النظام القائم في سوريا حماية لمنفذ موسكو الوحيد الى المياه الدافئة وهو ما عبر عنه بوتين بربطه الحملة التي يقوم بها في سوريا بالأمن الاستراتيجي.

الغرب أيضاً حاول تحجيم الدور الروسي عالميا عبر الضغط عليها عند حدودها، مستفيدين من مقولة فلاديمير لينين بأنه "اذا فقدت روسيا اوكرانيا فانها تكون قد فقدت رأسها"، حيث تمكن المعسكر المدعوم من الغرب من اسقاط النظام الحليف لروسيا، عبر مظاهرات اخذت طابعا عنفيا، الا أن بوتين تمكن من فرض واقع عسكري جديد عبر دعمه الانفصاليين والمتمردين في القرم وشرق اوكرانيا وما انتهى الى عقد اتفاق لوقف التوتر الذي افضى الى ضم القرم الى الاتحاد الروسي.

سباق التسلح

المنظومة الدفاعية Tor-M2U
على اعتبار ان الحروب هي الساحة الافضل لتجارة السلاح عبر الاسواق المباشرة ، فان الولايات المتحدة التي شاركت وأثبتت فاعلية قدراتها العسكرية في كل من العراق وأفغانستان، تصدرت قائمة الدول المصدرة للأسلحة لأعوام عديدة، في المقابل كانت روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، تعاني ثباتا قطبيا في هذا المجال، ولعل اول استفاقة شتوية كانت لها في جورجيا وآخرها في سوريا، حيث اثبت سلاح الجو الروسي فعاليته وعاد الى الواجهة عبر استحواذها بين العامين 2011 والعام 2015 على 25 % من سوق السلاح العالمي.

في المقابل لفت تقرير نشرته الصحافة الاميركي الى ما اعتبرته فشلا أميركيا في وجه روسيا في هذا المجال، بعد ان ثبت ان 70 % من طائرات سلاح الجو الأميركي غير صالحة للطيران وفشلها في المجال الجوي من منافسة "السوخوي" و"الميغ" من الجيل الخامس عبر الطائرتين "F22" و "F35" اللتين كلفتا الادارة الاميركية أكثر من 1,6 تريليون دولار (1600 مليار دولار) على مرور عقدين من الزمن ليتبين لاحقا أن طائرة "F35" "فخر الصناعة الأميركية" يمكن اسقاطها عبر طائرة "ميغ 21" الروسية التي تعتبر من الجيل القديم. اضافة الى تقادم الانظمة النووية الأميركية التي لا تزال تعمل على أجهزة الحاسوب من ثمانينات القرن الماضي، وأخيرا الكشف عن عدم قدرة  الدبابات الأميركية الحديثة (M1A2 أبرمز) على مواجهة سبطانة مدفع دبابة الـ "تي 90" الروسية، مما دفع البنتاغون لعقد اجتماع طارئ لبحث فيه سبل مواجه ما اعتبر تهديدا مباشرا عبر خطة تحديث قدرت بمئات المليارات من الدولارات.

الحرب الاقتصادية على موسكو

مع تنامي القدرات الروسية في شتى المجالات، قررت واشنطن ضرب الاقتصاد الروسي، عبر نسق أول تمثل بالايعاز الى السعودية بتخفيض سعر برميل النفط بحسب المسؤولين الروس، مما أثر على خطط التنمية الروسية،

 ونسقٍ ثانً تمثل  بالحصار الاقتصادي عبر العقوبات الاعتباطية عقب أحداث أوكرانيا ومنعها من استيراد البضائع (الجبنة الفينلندية التي كانت سوقها يمثل 800 مليون دولار في روسيا) ما ادى الى هبوط العملة الروسية المدعومة عبر النفط.

الا أن الاقتصاد الموجه للحكومة الروسية جعلها قادرة على لجم العقوبات ودعم العملة الوطنية بشكل مباشر عبر اتفاقيات مع حلفاء موسكو وأبرزهم الصين، اضافة الى اتفاقيات احادية الجانب كالتي وقعت مع المانيا في مجال الغاز والطاقة.

انعكاس الصراع على سوريا والمنطقة والعالم

سوريا التي تشهد صراعاً مباشراً بين القطبين وتواجداً مسلحاً، يسعى بوتين من خلاله الى رد الصفعة التي تلقاها في ليبيا، وكانت بلاده قد تلقتها في افغانستان، محاولاً استعادة أمجاده ولكن هذه المرة في صراع ليس عبر الوكالة، إنما بشكلٍ مباشر يتقاطع فيه مع الحلف الممتد من طهران وصولاً الى بيروت، وفي المقابل النسر الاميركي يحاول اقصاء روسيا عبر الجهاديين المدعوميين من السعودية وتركيا واسرائيل بشكل مباشر.

بالتالي فإن الصراع المحتدم في سوريا والذي يتوقع أن ترتفع سخونته في الايام القليلة المقبلة  هو كفيل، في حال الانتصار، بعودة روسيا وشركائها الى الساحة الدولية كاسرين بذلك الاحادية الاميركية مما سيؤثر على العالم بأسره انطلاقا من سوريا والشرق الاوسط.

فما بين المانيا في السابق وسوريا اليوم صراع متجدد رغم اختلاف الاسلوب المعتمد بين القطبين واختلاف اساليب المواجهة.