بصمات من البربرية الانسانية التدميرية على البشر والحجر
يقول إدغار موران
"... لقد استعرت من تيلهارد دو شاردان (Teilhard de Chardin) مصطلح النوسفير، والذي يعني في تصوري
عالم الأفكار والأذهان والآلهة وليدة الثقافة الانسانية، وبالرغم من أن هذه الآلهة
هي من انتاج الذهن البشري، فإنها تتمتع بحياة خاصة وبسيطة تمكنها من السيطرة على الأذهان.
وبهذه الكيفية تنجب البربرية الانسانية آلهة قاسية والتي تحثّ بدورها البشر على البربرية..."
وهي بالذات النزعة النفسية التي تدفع إلى المطالبة بالإنسانية، فـي مقابل البربرية،
فإنها مجرّد تحريض على المنظومة الأخلاقية، وعليه فإنّ مسألة البربرية هي محسومة لدى
الفكر الديني، بحيث أنه يسبّق البربرية على الإنسانية، دون إهمال الجانب المعنوي، وهذا
الحسم هو ما جعل الفكر كما الفلسفة الدينية ذا صدى عالمي، دون التفريط في اللمسة البربرية
الواضحة، والتي تنبع من أنّ الآلهة تطالب المنتسبين إلى عبادتها بالعمل البربري الصالح،
هو سبب الحق والكرامة في الحياة الأخرى.
هذا بالنسبة للتصوّر العام للبربرية، وعلى الرغم من هذا فإن هذه فكرة بالذات،
وهي في طريقها لتمسّ كل شعوب الأرض، تصطدم بعدة مشاكل وحواجز، كان أهمها مشكلتان تضربان
العصب الذي يقوم عليه التنظيم البربري برمته، وتلخيصهما فيما يلي:
1. المشكلة العضوية: الخاصة بتشييد بناء قائم على الحقائق
النفسية الاجتماعية في مجتمع ما.
2. مشكلة التوجيه: القائمة على حقائق الوضع الانساني
في هذا العالم.
المشكلة الأولى داخلية، والمشكلة الثانية خارجية، وعليه فإن محور المشكلة
العضوية بالنسبة للبربرية يقوم على أنّ التعاليم التي يطمح رجل الدين إلى تسويقها،
عليها أن تتمتع بالمزايا المطلوبة لذلك، فبالإضافة إلى اعتمادها على تراث مقدّس، فإنها
لا تخرج من دائرة النفس والمجتمع، بحيث أن العامل الأخلاقي يجد حيّزه المعيق لعملية
الانسجام، وعليه فإنّ المقاومة الزائدة لحركة التطوير والتنسيق، كما يحدث بين الذات
الانسانية في المحيط الذي يبدوا لها بربرياً، هي في الحالة العامة تمثل عائقا نفسيا،
قد يتكوّر (يتحوّل) إلى نشاط معيق من مجتمع أو ثقافة إلى أخرى، وبالتالي فإن هذا المشكل
النابع من الجانب السلبي للبشر، هو أوّل الحواجز والمعوّقات أمام تطوّر فكرة الانسانية
تاركة المجال لبربرية الانسان.
وعلى الرغم من تعارض الانسانية والبربرية، إن ما أخذنا البربرية مقياساً
للموضوع، لوجدنا أن ما تلاقيه البشرية من تدمير هو ناتج عن ثقافة متوارية خلف الانسانية
عينها، تقوم على عناصر مختلفة الجنس واللغة، حتى في الإنسان نفسه، وأكبر دليل على هذا
ما لاقته أوروبا من المؤسسة الدينية خلال قرون من الزمن، بربرية باسم الدين.
فالبربرية بحد ذاتها تبقى مفتوحة على التعديل والترقيع، حتى تصل إلى المكانة
النهائية، وهذا ما يجعل منها أسلوباً همجياً للتفاوض أو القتال، وغير قابلة للاندثار،
بحيث أنه من الضروري أن تكون هذه البربرية تأخذ وتعطي، بعضاً من أجزائها دون أن تفقد
شخصيتها وحضورها العضوي المميز لها، فتمس عناصرها الفرعية ولا تصيب جوهرها التخريبي
الأساسي.
في البداية يجب أن ندرج مقدمة لحديثنا كقضية عامة نطرحها قانونا نهتدي
به في سيرنا نحو حلّ المشكلات التي نواجهها نحن معشر بني الإنسان.
إحدى هذه المشكلات تبرز من الناحية النفسية في فترة خطيرة من تاريخ الإنسانية
الثقافي، وذلك عندما أفلتَت شمس الانسانية وحلّت محلها ظلمات البربرية، وانتهى دورها
إلى أماكن كثيرة من هذه الأرض، فبقيت آثارها المعنوية تذكرنا بالماضي الأليم.
يشير إدغار موران قائلا: "... إن بربرية الحرب لا تنفصل، فضلاً على
ذلك، عن الأزمنة التاريخية. فتاريخ المجتمعات الكبرى هو تاريخ الحروب التي لم تهدأ،
كما وضح ذلك غاستون بوتول (Gaston Bouthoul) مؤسس علم الحرب،
ومع ذلك، فهذه المجتمعات أنتجت إلى جانب البربرية ازدهار الفنون والثقافة وتطوّر المعرفة
وظهور نخبة مثقفة".
إننا نختلف في طبيعة جوهرية، وليس لمجرد الاختلاف، فالاختلاف مفروض علينا
جوهرياً أو بطريقة جوهرية خالصة، هذا الاختلاف نفسه غير قابل للتقبل عند البعض لتتفجر
البربرية لديهم بشكل عنيف للغاية.
فالمتأمّل في قضية البربرية، هو يدرسها، وكأنه يصف واقعاً ثقافياً، يعني
ظاهرة شاخصة أمام عينيه، فيقف منها لحد كبير موقفاً وصفياً، موقف الإنسان الذي يصف
ظاهرة ويريد تقديم صورة أوضح عنها بما ينبغي عليه تحديد خطوطها العريضة والقصيرة كونه
لا يمكنه أن يجربها، لا يمكنه أن يكون بربرياً لبعض الوقت.
هذا كله يقوم على اختيار أساسي للبربرية يكون في الحقيقة جوهر ثقافة، والأساس
الذي تبنى عليه مصائر النشاطات الانسانية ومصائر البشرية في النهاية.
طبعاً الانسانية كمقابل للبربرية كلمة عذبة فيها جانب أدبي مرموق، فيها
جانب مغر وقد أغرتنا فعلاً هذه الكلمة، حيث أصبحت شعار المنظمات الراعية للسلام والدول
ذات المسؤولية الامبراطورية والأخلاقية، تحملها كشعار المنظمات المتدينة أو الدينية
أيضاً، لكنها في الأصل ما هي سوى مواد تجميل للبربرية، جمال مادلين أولبرايت الأميركية.
"لم تنجح الهيئات
الدولية في إعطائنا أياً من الازدهار والأمن... لعل التهديد الوحيد الأكثر إثارة للرعب
في الأزمان الحديثة هو انتشار أسلحة الدمار الشامل (بأيدي) دول مارقة".
رغم كل ما حملته متون الأدب والثقافة والفلسفة الرومنسية من سلام وازدهار،
كان الإنسان في كافة فترات التاريخ عبارة عن عقْد جرى تبديده. بدأ العقْد بفوز الأحاسيس
في صراعها مع العقل الخالص، وفي أعقاب كل هذه التحولات، كانت البربرية قد احتلت مكانة
قوة ونفوذ غير مسبوقة في نفسيات البشر، فبالمقياس التقليدي للبربرية التقليدية، باتت
في وضعية لم يسبق لها مثيل منذ أن هيمنت روما على البحر المتوسط، بدت البربرية العسكرية
لأي منطقة مقارنة بنظيراتها التقليدية، قزماً على صعيدي المقدرات القتالية وقابلية
التدخل في أي نزاع حيثما وقع في العالم خلال فترة إنذار وجيزة، ثمة كان تسليم بالإجماع،
حتى من جانب خصوم محتملين، بأن وضع البربرية بوصفها، الفاعل العظيم الوحيد، قد لا تواجه
أي تحد على امتداد عدد من العقود القادمة، في الوقت نفسه كانت منطلقات البربرية المبدئية
على الصعيد الاقتصادي مثل الرأسمالية الليبرالية والتجارة الحرة قد أصبحت مقبولة كونيا
تقريبا على أنها النماذج الأفضل لمراكمة الثروة، وباتت البربرية نفسها محور هذا النظام
الاقتصادي الدولي. هذا وكانت منطلقات البربرية السياسية القائمة على الديموقراطية الليبرالية
قد انتشرت عبر القارات والثقافات مع إقدام شعوب أخرى على خلق وتعديل أساليب حكمها التقليدية،
بالاعتماد، أو تملقاً على الأقل، المذهب البربري القائم على أوهام الحقوق والحريات
الفردية، وكذلك فإن الثقافة البربرية كانت قد أصبحت، خيراً كان ذلك أم شراً، الثقافة
الكوكبية السائدة، وبمستوى نادراً ما كان قابلاً للتصور منتصف القرن بل وحتى في أوقات
متأخرة مثل سبعينات القرن العشرين، كان العالم قد تحوّل مرتديا ثوب بربرية كونية ناعمة.