أنا وغزّة
تستوقفني كل يوم سيدة عجوز رسمت أنامل الزمان على صفحة وجهها لوحة جدارية، خطت عليها الأيام خطوطها.
وأنها باقية وكل الغزاة إلى زوال
تستوقفني
كل يوم سيدة عجوز رسمت أنامل الزمان على صفحة وجهها لوحة جدارية، خطت عليها الأيام
خطوطها، ونامت الليالي بين تعاريجها وتجاعيدها واخاديدها.. وتحملني رسالة.. تقول
بابتسامة رغم شحوبها قد أضاءت ملامح عزم وصلابة وسيادة وعز غابر توارت بين ثنيات
تضاريس وجهها، وهي تجيب سؤالا سألته عيناي ولم ينطقه لساني، بنيتي، أنا أمك التي
لم تلدك.. لم أفهم، لكنني أيضا لم أتكلم، فتستطرد تقول بشيء من الاقتضاب.. لا
تعجبي، ولا يخدعنك ما يعتريني من وهن وبؤس وما يكسوني من رث الثياب.. علمني الزمان
يا ابنتي أن أصبر على تقلبات الزمان.. فيبيد من ساد، وأبقى أنا سيدة المكان في كل
آن.. وجهي الذي ترينه الآن، هو وجه الانقسام والحصار والفقر والبطالة وكل إفرازات
الاحتلال والعدوان.. هو وجه زائل يا بنيتي، وسرعان ما يعود لي وجهي الأصيل.. تاريخ
مشرق عزيز طويل طويل.. وارث حضارات وثقافات تمازجت وتراكمت فتواصلت، وبقيت أنا ولم
يبق الدخيل.. وجهي موروث عزم وصلابة وسيادة وعز تعاقب على مر الزمان.. أوتدرون من
تكون تلك العجوز الصبية.. الجميلة البائسة الشقية.. الواهنة الفتية البهية.. قرينة
الزمان منذ أن عرف الزمان.. وتوأم الحضارات من أحدث عصر، وحتى أول مركب شمس فرعونية.
أمي وأمكم التي لم تلدني وما ولدتكم.. لكنها أودعتنا كل جينات صبرها وجلدها وإصرارها
على البقاء.. وأودعتنا عشقها السرمدي لكل ماهو حضاري وثقافي.. إنها غزة. فنار
البحر وحصن البر.. أيقونة التاريخ وجوهرة تاج البشرية.. قاهرة كل الغزاة.. وسيدة
الزمان في كل عصر وأوان .
كأن أعماق البحر قد ملت الاحتفاظ بمعاناة سائر كائناته على مر العصور،
فلفظتها إلى البر.. وكانت غزة .. حتى اسمها تفوح منه رائحة المعاناة ويبعث في
النفس إحساسا بالألم.. لكنها كانت دائما وبشهادة التاريخ كالقدر المقدور، رابضة
على شاطئ البحر .. تتحدى الزمن وتسخر من كل من حاول تركيعها أو قهرها .. ولم يعرف
التاريخ غزاة للمنطقة لم تقف غزة شوكة في حلوقهم، من اسكندر مقدونيا وحتى نابليون
فرنسا.. مرورا بتغريبة الهلاليين التي صورت خلاصة إذلالها للغزاة الفاتحين.. وتشهد
وقائع التاريخ أيضا بأن غزة المتواضعة حجما كانت عبر الأزمنة دوما محتسبة وصابرة
.. مقهورة وقاهرة.. ضعيفة بالمقياس المادي للقوة.. ولكنها بمقياس الإرادة والعزم
وقوة الشكيمة، قادرة وقادرة.. وألف الف قادرة.
ويأتي تتار هذا الزمان فيستغولون ويوغلون في محاولاتهم فرض إرادتهم
على غزة الإرادة .. يحتلون ويقتلون ويدمرون، ولا تخضع غزة ولا تركع، فيلقون بها في
غياهب السجن الكبير ويغلقون كل منافذه بمفتاح الحصار، ثم يديرون ظهورهم لكافة
القوانين والأعراف الدولية والإنسانية ويمضون.. وتعود غزة تصبر وتحتسب..
ومن خلف حجب المعاناة والنزف على صليب الحصار تبدو غزة حينما تخلو إلى
نفسها بعيدا عن شرور بني الإنسان وآثامهم، رقيقة وادعة لا تعدم مسحة من جمال..
كأنها فارسة من فرسان الأسطورة تنفض المعاناة عن نفسها وتنزل إلى بحرها تغتسل من
هموم السياسة وأحزان الاقتتال والانقسام ومآسي الحصار.. وتخرج كعروس البحر..
تستعرض تاريخها باعتزاز وفخر.. وتتيه بآثارها الضاربة في القدم حتى أةائل الفراعنة
وتوالي العصور من حجري إلى برونزي إلى عصر الرومان بكنائسه والفتح الاإسلامي
ومساجده. وقلما عرف التاريخ تسامحا دينيا كالذي مارسته غزة.. وعناق مئذنة جامع
كاتب الولاية وبرج كنيسة بورفيريوس شاهد وخير دليل.
ويأبى آلهة الشر أن يرفعوا عن فارسة الأسطورة، غزة، تعويذة لعنتهم..
ويأبى الاحتلال أن يرخي قبضته عن عنقها، ويواصل بعثرة أشلائها على كل ما يبتكره من
مآسي وكوارث حتى يعود بحياة أهلها إلى عصور الظلام.. وبفضل حصاره الخانق وانعدام أبسط
أساسيات الحياة الحديثة ينسى الغزيون أنهم يعيشون في مطلع الألفية الثالثة، ولا
يذكرون إلا أنهم محاصرون محرومون مقهورون.. ولكن غزة لا تنسى أن الأيام دول.. وأن
دوام الحال من المحال.. وأنها باقية وكل الغزاة إلى زوال.