القبيلة الحزبية..جوقة التبرير، من العرس الشعبي إلى السياسة
في الأعراس الشعبية الفلسطينية ينتشر الزجل حيث يتناظر الشاعران، ووراء كل شاعر صف من الشبان يُصفّقون بانتظام، ولا تؤثّر صفقاتهم أو أعدادهم في أداء الشاعر، وممنوع عليهم أن يقولوا للشاعر أخطأت أو إن شِعرَك فيه عيوب ولا يؤثّر الاحتجاج على الشاعر بالانتقال إلى صف المُصفّقين للشاعر الآخر، دورهم هو التصفيق فقط..
هذا هو منطق الاصطفاف القَبَلي: اعتراف بالتبعية وإعدام العقل واستمتاع بالهستيريا الجماعية لحشد القبيلة، حتى لو كانت مُخطئة فخطأها ليس منها وحدها، بل هناك عوامل أخرى وأخطاء أخرى لقبائل أخرى جعلت الخطأ يقع، الخلاصة في البيت: أن القطيع هو العقل وهو المنطق وهو الصواب.
هذا هو المنطق السياسي الذي يسود في فلسطين: المُنتسبون للفصائل السياسية قد يمارسون رفضاً أو نقداً ذاتياً، أو حتى اصطفافاً انشقاقياً داخل أحزابهم، لكن المشكلة في الأنصار وفي التابعين، إذ ينظرون للحزب تماماً كنظرة ابن الصمّة للقبيلة، والخطأ عندهم ليس أمراً يجب التراجع عنه والاعتبار من دروسه، بل يستزفون أنفسهم وماء وجوههم لتبرير الخطأ وشرعنته وإبعاد النظر عن أضرار الخطأ بدعوى انه لو لم يحدث لحصلت كوارث، وبذا ينتقل من خانة الخطأ إلى خانة وجهة النظر، بانتظار نقله إلى محطة الصواب وتحويله شعاراً وطنياً.
الحال عامة وسائدة، لا يُستثنى منها فصيل لكنها نسبية، فهناك فصائل تعتبرها ظاهرة طبيعية لمراهقة أنصارها وقلّة خبرتهم في السياسة، لكنها في فصائل أخرى أمر منهجي: أي إنها مُتعلّقة بظاهرة صناعة الأتباع، وليس هامش الحرية والاعتراض، هؤلاء يدافعون ويسوّغون ويحاربون من أجل تزيين الأخطاء والخطايا، بل ويتّهمون جَمهَرة المُعترضين الفلسطينيين بالغباء والجهل والخيانة، وهؤلاء ليسوا ظاهرة نعزوها لقلّة الخبرة، فأعمار البعض تجاوزت السبعين وهم جزء من منظومة حكم، مُتخَمين بامتيازاته، أو مُنتظرين المزيد ولن يبدّلوا تبديلاً.
ذهب أبو مازن إلى جنازة بيريس ما فجّر غضبة شعبية عارمة، فمثل هذه الجرعات الصادِمة من الدبلوماسية، لا يمكن للشعب الفلسطيني احتمالها، ووسط هذه الغضبة -وبسطوة السلطان وامتلاك أدوات الحكم والإعلام- انفتحت مظلّة التبرير، والدفاع والهجوم، وتزيين الأمر، بعبارات جاهزة غير مُتماسِكة، تفوح منها عبثية الرؤية السياسية وثقوب في الذاكرة التاريخية والوطنية وانعدام المبدأ السياسي، ومن تلك العبارات مثلاً: أردوغان صافح شارون، فلِمَ لا يذهب أبو مازن إلى الجنازة، ينطقون تلك العبارة وكأن أبو مازن مبعوث أممي أو رئيس لبلد مجاور، وإن سألت المدافعين لِمَ لم يمشِ أبو مازن في جنازة شافيز ومانديلا لن تجد جواباً.
تبرير آخر "وجود أبو مازن في الجنازة، اختراق للصورة النمطية عن الفلسطينيين، وإحراج لليمين الإسرائيلي" لو سلّمنا بهذا المنطق، فعلينا فك التناقض بين هذا السلوك واسم منظمة التحرير، وتسميتها منظمة إحراج إسرائيل، لأن نهج أبو مازن لم يتعدّ بحسب مُسوقيه خانة إحراج إسرائيل أمام العالم. هذا من دون طرح أسئلة عن جدوى الإحراج، وهل حقق شيئاً وهل حدث أصلاً، ومن دون النظر إلى الإحراج من زاوية مختلفة، وهو أن هذه المسلكيات أحرجت الفلسطيني، وثبّتت عليه تهمة الإرهاب، لأنها تسوّق على أنها اعتذاريات عن "إرهاب حصل وما زال يحصل" وفتحت الباب لكل أعدائه أن يفتحوا أحضانهم للصهيوني، بينما يقف حنظلة يتيماً على قارعة الطريق.
مالنا ومال القدس، لا أريد صفد، التنسيق الأمني مُقدّس، لا خيار لنا إلا المفاوضات، المقاومة عبثية، كلها عبارات ومواقف جعلت الشعب الفلسطيني يرسم في ذاكرته إرثاً تراكمياً من السلوك السياسي المرفوض لأبو مازن، وليست المسألة أن شعبنا يُعبّر عن رفض الخطوة فقط، بل يُعبّر عن رفض نهج بأكمله، وبين رفض الشعب للمنهج، وفرض المنهج عليه من قِبَل السلطة، تبقى مساحة أمل صغيرة للحوار، ملأها الأتباع بعبارات الاتّهام والدفاع غير المُقنِع، في حال من الهستيريا القبلية السياسية المُثيرة للحزن والسخرية والكمد والكفر الوطني، حتى إن هؤلاء تجاهلوا مسألة هامة، وهي أن سواد فتح الغالب رفض الخطوة وعبّر عنها بأقسى الكلمات، في حين يجترح الأتباع عبارات تسويق جديدة، مثل: الثابت على الثوابت، أبو مازن لم يُوقّع ولم يُفرّط، وهنا السؤال، هل وظيفة رئيس المنظمة أن يقود التحرير أم ألا يتنازل فقط؟ وهل تُمهّد منهجية أبو مازن أرضية للتفريط بالثوابت أم لا؟
كانت حركة فتح تطرح نفسها تيّاراً وطنياً خالياً من الأيدلوجيا، وكان هذا مقبولاً حين كانت الأيدلوجيا هي التحرّر الوطني، لكنها ومنذ عام 1974 جعلت من أيدلوجيا التحرير وجهة نظر قابلة للتمدّد والتقلّص، وصارت شهوة التحرير تكتيكاً يخدم شهوة الحكم وهي البذرة الاستراتيجية الخبيثة التي قوّضت المشهد الفلسطيني.
في الأعراس الشعبية الفلسطينية ينتشر الزجل حيث يتناظر الشاعران، ووراء كل شاعر صف من الشبان يُصفّقون بانتظام، ولا تؤثّر صفقاتهم أو أعدادهم في أداء الشاعر، وممنوع عليهم أن يقولوا للشاعر أخطأت أو إن شِعرَك فيه عيوب ولا يؤثّر الاحتجاج على الشاعر بالانتقال إلى صف المُصفّقين للشاعر الآخر، دورهم هو التصفيق فقط، وهؤلاء في الأعراس يُسمّون السّحيجة ، والسحجة هي التصفيق، وهذا هو لقب الأتباع في فلسطين، يشاركون بكل طاقتهم في التصفيق ومن الصعب أن يعلق في أذهانهم بيت شعر واحد.