إنجازات دمشق تروّض "الأسد المُتأهّب" في عمّان
فرضت التطوّرات الميدانية في الأزمة السورية نفسها على المسارات السياسية، بحيث أن الإنجازات العسكرية للجيش السوري وحلفائه، شكّلت دافعاً ومنطلقاً لأيّ تواجد على طاولة مفاوضات أو تبادل لرسائل سياسية بين دمشق وخصومها، وهو ما بدا واضحاً في التغيّرات التي رافقت الرؤية الأردنية للأحداث، تحت تأثير العمليات العسكرية للجيش السوري.
منذ أشهر، وتحديداً في أيار/ مايو الماضي، استقبلت الأردن مُناورات عسكرية مشتركة جمعتها مع 23 دولة من بينها الولايات المتحدة، تحت عنوان "الأسد المُتأهّب". تلك المُناورات التي انطلقت للمرة الأولى عام 2011، شكّلت تحالفاً دولياً عربياً ضدّ دمشق وحلفائها، لتزامُن بدايتها مع بداية الحرب على سوريا، ومساعي الدول المشاركة فيها، لإسقاط الرئيس السوري بشّار الأسد وتمرير مشروعها التقسيمي في المنطقة، فبغضّ النظر عن الذرائع التي أطلقت، من مُكافحة الإرهاب إلى مواجهة "التهديدات"، فإن تضمُّن تلك المُناورات لتدريبات برية وجوية وبحرية شاملة بين الدول المشاركة، يوضح حجم الأهداف المطلوبة منها، والمُرتبطة بحربٍ تفوق ما هو مُعلَن من أهدافها.
مُناورات "الأسد المُتأهّب" الأخيرة، كانت مختلفة من حيث التغيّرات الميدانية والسياسية التي تزامنت معها، وقد تمّت بقوات برية وبحرية وجوية بلغ عددها قرابة 7200 مشارك، يمثّلون القوات المسلحة الأردنية وما سُمّي بـ"الجيش العربي" وحلف "الناتو".
ما عزّز الشكوك بالأهداف، كان طبيعة الأسلحة المشارِكة في المُناورات، مثل القاذفتين الحربيّتين من طراز "بي-بي1" التابعتين للقوات الجوية الأميركية، بالإضافة إلى استخدام لصواريخ "توما هوك"، ودبابات هجومية ذات فعاليات كبيرة، ما دفع الجيش السوري وحزب الله إلى وصفها بـ"المشبوهة"، بعد رصد تحرّكات لقوات أميركية وبريطانية وأردنية باتجاه الأراضي السورية.
لم تكتفِ الدول المُشارِكة في المُناورات حينها، وعلى رأسها واشنطن، من إرسال رسائل مُبطّنة ضد دمشق وحلفائها من جهة الأسلحة المُستخدمَة والإقتراب من الحدود السورية، بل خرجت الحكومة الأرنية لتعلن أنها "ستتخذ كافة الإجراءات الدبلوماسية وغيرها على صعيد الدفاع في العُمق السوري، من أجل حماية حدودها".
تصريحات عمّان تلك، قابلها ردٌّ حاد من دمشق، يكشف حقيقة ما كان يُحضّر في الجنوب السوري. الرئيس السوري بشّار الأسد تحدّث عن امتلاك بلاده لمعلومات حول تحرّكٍ عسكري سيحصل، معتبراً أن الأردن ليس بلداً مستقلاً واذا أراد الأميركيون استخدام الجزء الشمالي منه ضد سوريا فإنهم سيستخدمونه.
واشنطن أرادت من تلك الخطوة، فتح وتأمين خطٍ عسكري للقوات "المشتركة" انطلاقاً من الحدود السورية-الأردنية، باتجاه العاصمة دمشق، وهو ما أدركته القيادة السورية سريعاً، لتنطلق بعدها معركة "إفشال خطة إسقاط دمشق من الجنوب".
بدأ الجيش السوري تحرّكاته العسكرية، في مُحاذاة الحدود مع الأردن، وفي عمليةٍ نوعية ضمن مراحل عديدة، تمكّن الجيش وحلفاؤه في أواخر تموز/ يوليو الماضي، من السيطرة الكاملة على النقاط الواقعة ضمن حدود محافظة السويداء. وبهذا التقدّم، أحكم الجيش سيطرته على كامل بادية السويداء الحدودية مع الأردن، بإجمالي مساحة بلغت 4000 كيلومتر مربع منذ انطلاق العمليات في منتصف شهر أيار، قاطعاً بذلك الطريق على أيّ تحرّكٍ عسكري مُمكن أن يبدأ من الحدود الأردنية باتجاه العاصمة دمشق، بالإضافة إلى إغلاق معابر الأسلحة والذخائر للمُسلّحين من الأردن إلى البادية في اتجاه محافظة درعا وريف دمشق، لا سيما "معبر أبو شرشوح".
مع بداية شهر آب، كان الجيش السوري قد سيطر على مساحة واسعة من الحدود السورية-الأردنية تجاوزت الـ 50 كلم، من جهة محافظة السويداء، بالتزامن مع تثبيت وجوده في ريفي درعا والقنيطرة، في حين كانت قوات من الجيش السوري والحلفاء قد وصلت إلى الحدود السورية العراقية شمال قاعدة التنف الأميركية. جميعها عوامل ميدانية أدّت إلى انهيار المُخطّطات الأميركية، بعد مُحاصرة القاعدة، عند المُثلّث الحدودي بين سوريا-الأردن-العراق، وإسقاط أية أهمية استراتيجية لها، فتقدّم الجيش السوري في محافظة السويداء، وشمالي التنف، تزامنَ مع وصول قوات "الحشد الشعبي" العراقية، إلى معبر الوليد الحدودي بين سوريا والعراق، المُحاذي للمُعسكرات الأميركية.
تحت وقْع انتصارات الجيش السوري في الجنوب، سارعت عمّان إلى اتّخاذ خطواتٍ عملية، بهدف فتح قنوات إيجابية مع حكومة دمشق، استهلّتها بإعلان المُتحدّث الرسمي باسمها، محمّد المومني، في الرابع عشر من آب، وبعد تقدّم الجيش السوري، أن فتح معبر نصيب على الحدود مع سوريا، فيه مصلحة مُشتركة للبلدين.
دمشق تلقّفت رسالة عمّان تلك، ليعود المومني ويُعلن الأسبوع الماضي، أن علاقات بلاده مع سوريا ستشهد منحى إيجابياً يتّسم بالزُخم، مُعتبراً ان صنّاع القرار السوري يُدركون الموقف الأردني، الحريص على وحدة التراب السوري ومؤسّسات الدولة السورية، مُذكّراً في الوقت ذاته، أن السفارة الأردنية في عمَّان لا زالت تعمل، في تلميح لإمكانية عودة العلاقات الدبلوماسية لسابق عهدها.
الإشارات الإيجابية الأخيرة من عمّان اتجاه دمشق، تدخل في مضامينها وخفاياها "استسلام" للوقائع الميدانية، الأمر الذي انعكس محاولات اردنية للسير في اتجاهٍ معاكس للخيارات السابقة. الملك الاردني عبدالله الثاني كان طالب بأكثر من مناسبة رحيل الرئيس الأسد، زاعماً أن لا وجود للأخير في مستقبل سوريا، حينها كان مُنتشياً بالمناورات الأميركية على أرضه، وبغرفة "موك" المُتحكّمة والموجِّهة للمجموعات المُسلّحة في الجنوب السوري.
اندثار أية أهمية استراتيجية لقاعدة التنف وتحالف "الأسد المُتأهّب" وغرفة "موك" سلب الحكومة الأردنية أوراقاً مهمة في سياق تواجدها كلاعبٍ أساسي بغطاء أميركي، على الساحة السورية. لم يبقَ أمام عمّان إلا تغيير تموضعها بأقل الخسائر المُمكنة، تماشياً مع التطوّرات الميدانية والاتفاق الروسي-الأميركي في الجنوب السوري، لا سيما وأن مسار الاتفاق كان انعكاساً للوضع العسكري هناك، وهو ما يبدو واضحاً من التصريحات "الإسرائيلية"، حيث اعترفت الصحف العبرية أن واشنطن تركت "إسرائيل" وحدها في مواجهة سوريا وإيران، في حين اعتبر نائب وزير الأمن الأسبق، إفرايم سنيه، أن الاتفاق الروسي الأميركي بشأن سوريا، يُشكّل ضربةً استراتيجيةً باهظة الثمن لـ"إسرائيل"، موضحاً ان "اسرائيل" فقدت حتى الدور الأردني الذي كان بالإمكان تجنيده لمواجهة التهديد ومشاركتها في الاحتجاج على الاتفاق الثنائي".
التطوّرات العسكرية في الجنوب السوري، التي نتج منها تراجع الدور الأميركي، وضعت الأردن أمام خياراتٍ محدودة، لا يمكن القفز فوقها. عمّان التي كانت منذ أشهر تُقيم على أراضيها مُناوراتٍ مشتركةٍ مع واشنطن، مصحوبةً بتهديداتٍ لتدخّلٍ عسكري في الجنوب السوري بالتنسيق مع الإدارة الأميركية، انتقلت الآن إلى الرغبة في التنسيق مع حكومة دمشق، من أجل تأمين الحدود بين البلدين، وفيما كان التحالف الأردني-الأميركي يُخطّط لفتح خطٍ عسكري باتّجاه دمشق، انطلاقاً من الحدود، كان للجيش السوري وحلفائه خطواتٍ عكسية مُواجِهة، أرغمت الحكومة الأردنية على تبديل مواقفها كلياً، بإعلانها الحرص على سير الأمور الأمنية بالاتجاه الصحيح في سوريا، ليس فقط عند المعابر، وأيضاً بشأن الطريق الدولي في ما بعد المعابر.
قوات الجيش السوري وحلفاؤه استطاعت الالتفاف على المساعي الأميركية الأردنية، ودفَعت عمّان إلى اتّخاذ مواقف تتناسب مع خيارات واشنطن الجديدة، التي فرضها الجيش السوري جنوب البلاد، ما يُعزّز من كلام الرئيس الأسد، "المُتأهّب" لأية مؤامراتٍ ضدّ دمشق، بأن "انتصارات الجيش السوري هي الحرب وهي السياسة".