سوريا: سياسات الدولة ليست فوق النقاش
تدرك سوريا اليوم أنها بعد 13 عاماً من حرب كارثية، لم تعد قادرة على الاستمرار بسياسات تبلورت ملامحها قبل عدة عقود من الزمن.
حتى وقت قريب، كان من غير المقبول رسمياً انتقاد السياسات الاقتصادية والاجتماعية المطبّقة قبل العام 2011 في سوريا، أو التطرّق إلى دورها في مسألتين أساسيتين: الأولى إسهامها في نشأة الأزمة الحالية وامتدادها لبعض المناطق الجغرافية داخل البلاد، وأياً كانت درجة تلك المساهمة. والمسألة الثانية تتعلّق بدورها في تدهور الأوضاع الاقتصادية منذ منتصف العام 2019.
صحيح أنّ بعض الاقتصاديين والإعلاميين اعتبروا أن تلك السياسات ونتائجها تمثّل الجزء الأهم في تركيبة العوامل الداخلية لنشوء الأزمة الحالية، إلّا أنّ التجاهل الحكومي لهذا الملف وعدم الاقتراب منه لسنوات عديدة من عمر الأزمة فاقم أولاً من مفاعيل الآثار الممتدة لتلك السياسات على الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد، وعمّق ثانياً من إمكانية معالجتها ومواجهتها في ضوء تبعات التدهور الاقتصادي على مؤشرات أساسية كالفقر والبطالة والمالية العامّة للدولة وحوامل الطاقة وما إلى ذلك.
هذا التجاهل أو الصمت الحكومي تمّ كسره قبل أشهر قليلة مع خروج وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية على الإعلام الرسمي وتحميله بعض السياسات الحكومية السابقة المسؤولية عمّا آلت إليه الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وثمّ دعوته لمجموعة من الاقتصاديّين والإعلاميّين الاقتصاديّين إلى حوار صريح مع أعضاء الفريق الاقتصادي الحكومي كان هدفه مراجعة وتقييم أثر السياسات الاقتصادية خلال فترة الأزمة وما قبلها.
ثم جاءت كلمة الرئيس بشار الأسد أمام مجلس الشعب مؤخّراً لتحدّد المقصود بمراجعة وتقييم السياسات السابقة، الغايات والأهداف من تلك العملية، والخطوط العامّة التي يمكن العمل بموجبها طارحاً على النقاش العام مجموعة واسعة من التساؤلات المتعلّقة بسياسات بعضها عمرها ما يزيد على ستة أو خمسة عقود، ومن هذه التساؤلات ذكر الرئيس الأسد ما يلي: "هل كانت تلك التوجّهات مناسبة لمجتمعنا؟ هل كانت مناسبة لظروفنا؟ متى كانت مناسبة؟ متى لم تكن مناسبة؟ وإذا كانت مناسبة فهل كانت مناسبة من دون ثمن؟ هل كانت مناسبة من دون سلبيّات على الهامش؟ هل كان ممكناً تلافي تلك السلبيات بتلك السياسات نفسها التي كانت قائمة في ذلك الوقت؟ وأسئلة كثيرة على هذا المنوال لكي نعرف أين تكمن المشكلة؟
من وجهة نظري السياسات طبعاً كانت مناسبة وكانت صائبة، لكن هل هناك شيء مطلق في الحياة؟ هل هناك شيء مطلق لكلّ زمان ومكان، هذا الكلام غير ممكن، لو تحدّثنا عن سوريا خلال ستة عقود أو سبعة عقود، فهي تغيّرت تغيّرات جذرية لا حدود لها باتجاه الأمام، تقدّم، تراجع، أقصى اليمين وأقصى اليسار، صعوداً وهبوطاً؟"
دور جديد للدولة
يمهّد كلام الرئيس الأسد الطريق أمام الحكومة الجديدة، والمرتقب تشكيلها خلال أيام قليلة، لقيادة حوار وطني اقتصادي هدفه مراجعة نتائج السياسات الاقتصادية والاجتماعية المعمول بها منذ العام 1963، وتالياً تقييم الضرورة الراهنة للاستمرار بتلك السياسات، نجاعة طريقة التعاطي معها، والإجراءات المتبعة لتنفيذها، ومن ثمّ العمل على وضع مقترحات لسياسات قد تكون جديدة بالكامل أو جزئياً، وسبل تنفيذها بما يتجاوز أخطاء وعثرات الماضي من ناحية، ويحافظ على الثوابت الاقتصادية والاجتماعية المعلنة رسمياً من ناحية أخرى.
تدرك دمشق أنّ فتح مثل هذا النقاش بلا سقوف معتادة أو مواقف مسبقة سيقود من دون شك في النهاية إلى رسم دور جديد للدولة، مختلف في بعض جوانبه عن الدور الذي لا تزال تمارسه منذ العام 1963، والذي أخذت بموجبه على عاتقها القيام بمهام ومسؤوليات واسعة في إطار تبنّي السلطة السياسية للنهج الاشتراكي في إدارة البلاد، من احتكارها للكثير من الأنشطة الاقتصادية والخدمية إلى اعتمادها لسياسة دعم اجتماعي شمولي، وأن تكون موجودة في جميع القطاعات الأخرى من إعلام وثقافة وغيرها. وهذا رغم ما شهدتها العقود الخمسة الماضية من إجراءات إصلاحية صبّت نتائجها في خدمة توسيع دور ومساهمة القطاع الخاص السوري.
أولى السياسات التي تفرض الظروف والمتغيّرات نقاشها بموضوعية وانفتاح ما يتعلّق بدور الدولة في النشاط الاقتصادي. فالتدخّل عبر الشكل التقليدي، القائم على استمرار الوجود الاستثماري للقطاع العام في جميع المجالات والقطاعات الاقتصادية الفرعية، والاحتكاري أحياناً، لم يعد مجدياً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، لاعتبارات أبرزها فقدان الجدوى من الاستثمار في بعض الأنشطة الصناعية والتجارية غير الاستراتيجية، وما يسبّبه استمرار ذلك الاستثمار من هدر وفساد في وقت تعاني الخزينة العامّة من تراجع إيراداتها، وتالياً عدم قدرتها على تخصيص جميع الشركات العامة بميزانيات استثمارية للتوسّع والإصلاح والتطوير.
البديل المقترح يقوم على تحديث وتطوير دور الدولة بحيث يتنقّل من شكله التدخّلي التقليدي الفاقد للتأثير إلى شكل حديث محوره قيام الدولة بمهام التخطيط والتنظيم والإشراف، فضلاً عن حصر استثمارات القطاع العام في الأنشطة الإنتاجية والخدمية الحيوية والاستراتيجية، وهذا من شأنه تحقيق عدة أهداف أساسية:
-ضمان تنشيط الوضع الاقتصادي بمختلف قطاعاته وجوانبه، الأمر الذي سوف ينعكس تدريجياً على الوضع المعيشي لجميع السكان.
-استثمار إمكانيات الدولة بمؤسساتها وقطاعها العام وتوجيهها بشكل صحيح وفقاً لمنظور اقتصادي، وتالياً زيادة إيرادات الخزينة العامة ووقف مظاهر الهدر والفساد.
-الحد من هجرة رؤوس الأموال الخاصة عبر توفير جبهات عمل محلية لها، وإن كانت هناك حاجة لإجراءات حكومية أخرى داعمة ومكمّلة لمثل هذا التوجّه.
ثاني السياسات ما يتعلق بالدعم الحكومي الموجّه للقطاعات الاجتماعية والإنتاجية والخدمية. فالتوافق الداخلي على أهمية الاستمرار بهذه السياسة، ولا سيما مع ما تسبّبت به الحرب من تراجع كبير في المؤشرات التنموية والاقتصادية، لا يلغي ضرورة إعادة النظر بالمعايير المتبعة في تقديم هذا الدعم وتحديد المستهدفين وآليات إيصاله. لكن التجارب الحكومية الفاشلة في إعادة هيكلة الدعم وآخرها كان في العام 2022، حدت كثيراً من دائرة مؤيدي مراجعة هذه السياسة ما لم تكن هناك ضمانات حكومية فعلية تحافظ على حقوق المستهدفين بالدعم.
وبالنظر إلى خصوصية كلّ قطاع اقتصادي واجتماعي وخدمي وتشعّب أشكال الدعم فيه، فإن النقاش في هذا الملف، والذي بدأ فعلياً منذ عدة أشهر، سيكون بحاجة إلى وقت طويل قبل التوصّل إلى صيغ مرضية لجميع الأطراف. فالدولة تضمن لغايتها من الدعم أن تتحقّق بأقل قدر ممكن من الهدر والفساد، والمستفيد من الدعم يحصل عليه بعيداً عن أيّ تعقيدات إجرائية وإدارية أو أخطاء كما حدث سابقاً.
الملف الثالث يتمثّل في ضرورة الاعتراف بإخفاقات التنمية في بعض القطاعات والمناطق، والتي ظهرت مؤشراتها فعلياً بعد العام 2011، في حين أن بعض المؤشرات الحكومية كانت تتحدّث وتروّج لعكس ذلك. وأهمية العودة إلى سياسات التنمية على المستوى الإقليمي والوطني في البلاد لتقييم نتائجها بموضوعية وشفافية ليست غايتها محاسبة أو إدانة مرحلة، وإنما الوقوف على الأسباب والعوامل المؤسساتية والمجتمعية التي أدت إلى مثل تلك الإخفاقات، وعدم تدارك المؤسسات الحكومية لذلك الفشل باكراً وتركه يكبر بعيداً عن أي معالجة.
فمثلاً ما الذي جعل البلاد تنجح في تحقيق ثورة زراعية بداية التسعينيات وتفشل صناعياً؟ ولماذا تعثّرت خطط التنمية في المنطقة الشرقية على مدار عقدين وأكثر من الزمن؟ وكيف تسلّل الفقر إلى مناطق عرفت بإنتاجيّتها الزراعية العالية وبتحويلات مغتربيها؟ جميعها أسئلة لا بدّ من طرحها والإجابة عليها بموضوعية للوصول إلى مرحلة اقتراح سياسات تنموية بديلة تكون أكثر واقعية وجدوى.
وهناك أيضاً الكثير من السياسات الداخلية، التي وإن جرى إدخال بعض الإصلاحات عليها خلال فترات زمنية معيّنة، إلا أنها لم تخضع لما يمكن تسميته بالتشخيص "الجراحي الدقيق" لبيان حالتها ومدى قدرتها على الاستمرارية رغم المتغيّرات التي طرأت على عناصر البيئة المحيطة محلياً وخارجياً.
تعديل أم تغيير؟
تدرك سوريا اليوم أنها بعد 13 عاماً من حرب كارثية، لم تعد قادرة على الاستمرار بسياسات تبلورت ملامحها قبل عدة عقود من الزمن.
لكن ما الغاية من مناقشة تلك السياسات؟ هل المطلوب والمناسب في هذه المرحلة إدخال تعديلات على هذه السياسات وطرائق وآليات تنفيذها؟ أم أنّ الأفضل لها استبدالها بسياسات جديدة كما فعلت دول كثيرة؟
ليس الأمر بتلك السهولة، إذ إنّ هناك مجموعة من المحدّدات الرئيسية لأيّ سياسة مستقبلية يمكن انتهاجها رسمياً، ومن هذه المحدّدات يمكن أن نذكر ما يلي:
-هوية الاقتصاد السوري، والتي لم يجرِ تحديدها أو الاتفاق عليها بعد إقرار الدستور الحالي في العام 2012. هل هو اقتصاد اشتراكي؟ رأسمالي؟ أم أنه سيحافظ على ما تمّ إقراره في المؤتمر العاشر لحزب البعث في العام 2005 الذي اعتمد اقتصاد السوق الاجتماعي نهجاً اقتصادياً للبلاد؟
-ارتفاع معدلات الفقر وانعدام الأمن الغذائي في المجتمع السوري خلال فترة الحرب، يفرض على الدولة الاستمرار بسياسة الدعم الاجتماعي وبناء شبكات حماية اجتماعية.
-الحاجة إلى الاستمرار بسياسة دعم الخدمات الأساسية من تعليم وصحة بغية استعادة المؤشرات التنموية التي تمّت خسارتها خلال عقد الحرب. وثمة فرق بين الاستمرار بسياسة دعم الخدمات الأساسية وبين إعادة توجيه تلك السياسة وتعديل أهدافها وغاياتها.
-التفاوت التنموي بين المناطق والأقاليم السورية والذي تعمّق أكثر مع دخول الكثير من المناطق والمحافظات على خط المعارك العسكرية والوجود المسلح غير الشرعي المحلي والأجنبي، فضلاً عن خروج بعض تلك المناطق عن سيطرة الدولة.
لا شك أنّ جزءاً من النجاح في هذا التحوّل "السياساتي" سيظل مرهوناً بالمتغيّرات الإقليمية والدولية لجهة مستقبل الانفتاح السياسي والاقتصادي على دمشق، واستعادة الأخيرة لسيطرتها على المناطق الشمالية والشرقية الخارجة عن السيطرة. فهذا التحوّل يحتاج إلى ما يدعمه على صعيد الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.