الفدائي كبوتشي: الإنجيل بيد والرشّاش بالأخرى

كان الرجل الراحل في حجم أمة بحق وحقيق ، وقامة عابرة للأديان والأعراق والمذاهب والطوائف، انضم إلى قوافل سفن فك الحصار الظالم للغُزاة الصهاينة على المدنيين من أبناء قطاع غزّة ، بعد أن أفزعه الصمت العربي الرسمي تجاه جرائم حروب الإبادة الجماعية التي تمارسها حكومات العدو الصهيوني المتعاقبة على شعبنا العربي الباسل في قطاع غزّة ، وقاد سفينة "الأخوة"اللبنانية التي انطلقت من ميناء طرابلس على متنها 650 شخصية عربية وعالمية .

في منفاه في روما كان المطران الفدائي لايهدأ عن الحركة ولا ينام ولا يجعل غيره ينام ، كان سفيراً صادقاً لعدالة نضال الفلسطينيين
ثمة رجال ،كل منهم ،في حجم أمة!من أبرزهم مطران القدس الشريف الفدائي الراحل "هيلاريون كبوتشي" ابن حلب وبيروت والقدس!الذي كان يحتفظ بمناصب تؤهّله للعيش كعيشة الملوك،لكنه أبى إلأ أن يبقى عربياً صحيحاً ،لا قيمة لذاته من دون كرامة ذات شعبه وأمّته من حوله، فانضم إلى الفدائيين مع "هزيمة الجيش الذي لايقهر" في حرب رمضان المجيدة عام 1973م ، واخذ يأوي أوائل الفدائيين وأسلحتهم في سيارته المشمولة بالحصانة وفي زوايا ديره.
وعندما كان الراحل الكبير الفريد يُسأل عن هويته كان يُردّد جواباً واحداً، من كلمة واحدة: عربي.
كان الراحل الفقيد مثل غيره من البطاركة والخوارنة والمطارنة والشيوخ والأئمة، كل يعيش في صومعته،لا يخرج عن النص، مُقدّماً مصلحته الشخصية على مصلحة الرعية،إلى أن زاره ذات يوم في أوائل السبعينات من القرن الماضي شقيق وشقيقته جاءا إلى القدس من الولايات المتحدة يتفقدان منزلهما المُصادر من سلطة الاحتلال الإسرائيلي وتقطنه عائلة يهودية مستوطنة غريبة عن فلسطين ، بناء على وصية والدهما المقدسي قبيل وفاته!
طلب الشقيقان العربيان المقدسيان المسيحيان من "أبونا"الراحل مرافقتهما في زيارة بيتهما في القدس ، لراحة نفس والدهما ورغبة منهما في تذكّر طفولتهما المشتركة في زواياه وفنائه! لكن "أبونا"تردّد للحظات لعلمه أن أولئك الغُزاة القُساة الحاقدين على تيه التاريخ والخارجين من قعره لن يأذنوا بمثل هذه الزيارة ، لكنه ازاء إصرار الشقيقين رافقهما مما كان له الأثر الرئيس في تحوّل المطران من التصومع والعزلة الكهنوتية لحياة الفدائيين الملتحمين مع هموم وطنهم .
رفض محتلو البيت المقدسي الصهاينة الغزاة السماح لصاحبي البيت والمطران بالدخول ثم طردوا الوفد الضيف من دون أن تشفي دموع الشقيقين لهما بتلمّس وقع خطواتهما الأولى في زوايا البيت وحديقته، أو تعقّب ابتسامات والديهما قبل حلول الجراد في ديار القبلة الأولى التي تتناساها حكومات العرب في حاضر الأيام.
وعندما تفاوض الفاتيكان مع حكومة الاحتلال بعد أربع سنوات من اعتقال المطران الفدائي بتهمة توصيل الأسلحة لرجال "فتح" وإيواء رجالها الزاحفين إلى ديار القدس من كل حدب وصوب من حول فلسطين ،كان شرط العدو المزدوج أن لايعود الفدائي المطران إلى فلسطين ثانية وأن يصعد إلى الطائرة باللباس المدني وليس الكهنوتي، وإلا سيمضي مدة محكوميته اثنتا عشر سنة ،كان رد الفدائي الباسل :"إذا كان البابا يقبل أن أصعد باللباس المدني فأنا أرفض ذلك"!! وصار له ما أراد ،لأن إرادته كانت ممتدة من حلب إلى القدس، وصلبة صلابة إرادة الحلبيين والمقادسة لا تنقاد لعملاء ولا لغُزاة .
في منفاه في روما كان المطران الفدائي لايهدأ عن الحركة ولا ينام ولا يجعل غيره ينام ، كان سفيراً صادقاً لعدالة نضال الفلسطينيين البواسل  ضدّ آخر الاحتلالات البغيضة على المعمورة ، ومنارة  متوهّجة غيّرت كثيراً في عيون وعقول مؤسسات غربية متماهية مع قَتَلَة المسيح الفادي.
ولمّا كان الرجل الراحل في حجم أمة بحق وحقيق ، وقامة عابرة للأديان والأعراق والمذاهب والطوائف، انضم إلى قوافل سفن فك الحصار الظالم للغُزاة الصهاينة على المدنيين من أبناء قطاع غزّة ، بعد أن أفزعه الصمت العربي الرسمي تجاه جرائم حروب الإبادة الجماعية التي تمارسها حكومات العدو الصهيوني المتعاقبة على شعبنا العربي الباسل في قطاع غزّة ، وقاد سفينة "الأخوة"اللبنانية التي انطلقت من ميناء طرابلس على متنها 650 شخصية عربية وعالمية .
وهنا يذكر المناضل القومي المفكّر هاني سليمان المرافق للمطران على متن السفينة إن بحرية العدو اعترضتهم حال خروجهم من المياه الاقليمية اللبنانية ، مهدّدة إن لم تعد السفينة إلى لبنان سيتم إغراقها في قاع البحر بعد قصفها ،إن الراحل الكبير قال له :ياهاني قل لهم إننا ردّدنا جميعا الشهادتين وإننا لن نعود أبداً.
ولأنه عروبي حتى النخاع كان الراحل الكبير يشارك المُبحرين على متن السفينة صلاة الفجر، ويهلّل ويُكبّر كلما هلّلوا وكبرّوا، وكان دائم الترديد:"أنا أبو الفلسطينيين لن أنساهم"، مثلما هم لم ولن ينسوه وقد خرجوا لأسبوع متواصل في تظاهرات جماهيرية عام 1974 ضدّ اعتقاله بعدما تيقّنوا أنه كان فدائياً حقيقياً لنصرتهم والدفاع عن مقدّساتهم التي هي مقدّساته والعكس صحيح.رحم الله فقيد أمتنا العربية الماجدة ، فقد كان يحمل في يمناه كتابه الثوري "الإنجيل"وفي اليسرى رشاشه وإصبعه دوماً ضاغط الزناد.