روّاد الصحافة العرب زمن الحُكم التركي للوطن العربي!

بسطت الدولة العثمانية سيطرتها العسكرية والإدارية على الوطن العربي إثر معركة دابق مع المماليك عام 1516م ،وغادرته عام 1918م ،عقب نتائج الحرب العالمية الأولى ،عاشت الدولة والعرب معاً طيلة الفترة الطويلة بين حدّ السيف وقذيفة المدفع من جهة ، وبين الجباية والفقر والجهل "وسفر برلك"من جهة ثانية!

جريدة الهلال هي واحدة من أرقى المجلات الأدبية للبناني جرجي زيدان
 لم يكن في الدولة العثمانية قوانين مطبوعات ونشر ذات مروحة حريات واسعة نتيجة خوف قادتها من تأثير وعي شعوب وجماعات الإمبراطورية على تماسكها وقوتها ،إلى أن أجبرت الدول الغربية المتنفّذة في منتصف القرن التاسع عشر كفرنسا وبريطانيا ، سلاطين الآستانة على تغيير مواقفهم من الحريات الممنوحة للأقليات الدينية والإثنية في بلاد الإمبراطورية ، ومنها حرية الصحافة، لاسيما البداية البسيطة لفتح مروحة حرية الصحافة بعد زيارة السلطان عبد العزيز إلى باريس عام 1867م عندما دعاه نابليون الثالث لحضور معرض باريس الدولي ومشاهدته على أرض الواقع، لحضارة الأوروبيين ،لكن  بداية عهد السلطان عبد الحميد الثاني شهدت حرية واسعة للصحافة، إلا أن "خشية عبد الحميد على حياته من تمادي الصحافة جعلته يصدر أمراً بتقييد حريتها ، وضيّق عليها المراقبة حتى غدت جسداً بلا روح وأصبحت تقتصر على عبارات التمجيد بالسلطان و"الدولة العليّة""!-على حدّ تعبير  مؤرّخ الصحافة العربية أديب مرّوة-!

         

أول جريدة قبطية في مصر
  ومن أوائل المفكّرين والصحافيين الذين ساهموا في إنشاء الصحف ،في العهد العثماني :رزق الله حسون  المولود في حلب الذي يعتبر أول عربي يصدر صحيفة هي "مرآة الأحوال"في إسطنبول عام 1855م، ثم تلاه بعد ثلاث سنوات خليل الخوري اللبناني صاحب "حديقة الأخبار"عام 1858م في بيروت والتي هي أول صحيفة عربية مستقلّة يصدرها عربي في البلاد العربية، في حين أصدر اللبناني  إسكندر شلهوب بإيعاز من السلطان العثماني صحيفة "السلطنة"في القاهرة عام 1857م ، لتشويه سمعة أسرة محمّد علي بين المصريين لكنها لم تعش أكثر من عام بعد مقاطعة معظم المصريين لها لاكتشاف غاياتها ،ثم أصدرفي العام 1858م، رشيد الدحداح اللبناني في باريس  جريدة :"برجيس باريس وأنيس الجليس"،لتصدر بعد عامين (1860م) أعظم الصحف العربية في زمنها:"الجوائب"العربية"، لكبير مفكّري العرب في القرن التاسع عشر أحمد فارس الشدياق المُصلح والمُفكّر والصحافي والمربّي وصاحب كتاب :"الساق على الساق في ما هو الفارياق"،كانت صحيفته الأولى في انتشارها  حيثما كانت اللغة العربية منتشرة، والأولى أيضاً في شرح أحداث السياسة العالمية ، واستمرت في الصدور قرابة ربع قرن متواصلة من دون انقطاع ، وهي إلى جانب "حديقة الأخبار"في بيروت و"الوقائع المصرية"في القاهرة  من أهم صحف ذلك الزمان!

 

 وساهم المفكّر العربي الماروني الشهير بطرس البستاني  صاحب ومؤلّف عشرات الكتب والأبحاث اللغوية والمعاجم ، وأشهرها ""محيط المحيط"(أول معجم عصري بالعربية في مجلّدين عام 1870م) و"دائرة المعارف"(أول موسوعة وطنية قائمة على المنهج الحديث في التأليف) ، وأنشأ منفرداً ومشتركاً مع نجله سليم،  أربع صحف شهيرة هي :"نفير سورية "تحوي رسائل وطنية مكتوبة بلغة مفهومة وأسلوب واضح، موجّهة إلى المواطنين السوريين «لشدّ عرى الألفة والمودّة بين الناس». وقد ظهر في هذه النشرة ثلاثة عشر نفيراً في الفترة بين أيلول 1860 ونيسان 1861. وقد أراد البستاني من خلال جريدته «نفير سورية» أن يقرع جرس الإنذار لإيقاظ السوريين من خطر الحرب الطائفية التي كانت تعصف بوطنهم،والثانية:"الجنان".صدرت عام 1870م مرتين في الشهر ، كان شعارها: "حب الوطن من الإيمان"واستمرت سبع عشرة سنة على صدورها ، والثالثة :"الجنة"(1870)أسبوعية سياسة تجارية أدبية  وتوقّفت عام 1886م بسبب اشتداد الرقابة على الصحافة العربية في لبنان وسوريا، وهجرة معظم الصحف والصحافيين العرب إلى مصر تحت حماية والي مصرالثائر على سلطان الأستانة! والرابعة:"الجنينة"(1871م) السياسية والتجارية لصاحبها سليم بطرس البستاني وهو اول صحافي عربي حاول إصدار جريدته يومياً ، وعاشت أربع سنوات ونيفاً.

  ونجد  من المفكّرين الذين أصدروا صحفاً في العهد العثماني:عبدالله النديم المولود في الإسكندرية عام 1843م  الأديب والشاعر والكاتب ، والذي اشترك مع  أديب إسحق وسليم النقاش في تحرير صحيفتي "المحروسة"و"العصر الجديد" ثم أسّس جماعة سرّية بإسم "اتحاد الشبيبة المصرية" طالبت بسنّ قانون ينظّم علاقة الحاكم بالشعب ويمنح الحريات الخاصة والعامة ، ومنها حرية الصحافة، ثم أنشأ جمعية "مصر الفتاة"بصورة علنية تحت إسم :"الجمعية الخيرية الإسلامية"،إلى أن أنشأ جريدة أسبوعية  دعاها :"التنكيت والتبكيت "ظاهرها هزل مضحك وباطنها جد أليم، ثم استبدلها بجريدة "الطائف"عام 1881م التي نفخت في ضرام الثورة العرابية، وكانت ميداناً للثائرين من حملة الأقلام، ثم أصدر بعد عودته من المنفى صحيفته الثالثة "الأستاذ"فكانت صورة جديدة عن صحيفته الأولى "التنكيت والتبكيت"، ما حمل الحكومة على إبعاده ثانية، فأقام في الآستانة ألى أن توفي عام 1896م.

  وجاء العالم والمحقّق والأديب والشاعر إبراهيم ناصيف  اليازجي ، الذي ضبط صيّغ التوراة ونقّح عباراتها  طيلة تسع سنوات عندما تُرجمت للعربية ، وأصدر في القاهرة عام 1894م مجلة "البيان" ثم استقل بمجلة أخرى بإسم "الضياء " وبقي يصدرها لعام 1906م، في حين برز أيضا "أديب إسحق المولود في دمشق عام 1856م  وعمل في الصحافة في بيروت والقاهرة والإسكندرية  التي أسّس فيها باقتراح من جمال الدين الأفغاني "جريدة مصر " وكانت ميداناً لأعظم كُتّاب مصر،  صال فيه الأفغاني وجال ، ثم أصدر  جريدة "التجارة"عام 1878م بصورة يومية وكان ل"تطرّف" الجريدتين الوطني والقومي السبب في وقف السلطات لهما!ثم أسّس أديب في باريس مجلة سياسية شهرية بإسم:"مصر القاهرة" ثم عاد إلى مصر بعد سماح  السلطات له وأصدر جريدته "مصر".

ومن أبرز الصحف العربية التي صدرت في أواخر العهد العثماني ،على  سبيل المثال:

1-    المقتطف :مجلة أدبية علمية راقية أسّسها في بيروت يعقوب صروف وفارس نمر سنة 1876م  ثم انتقلت إلى القاهرة عام 1884م لشدّة الرقابة العثمانية  وتوقّفت عن الصدور عام 1952م

2-    اليعسوب:أول مجلة طبية بالعربية في العالم  أصدرها محمّد علي البقلي ومحمّد الدسوقي عام  1865 في القاهرة.

3-    الأهرام:أصدرها في الإسكندرية الشقيقان اللبنانيان سليم و بشارة تقلا  ثم نقلت إلى القاهرة عام 1898م

4-    الوطن (1877م) أول جريدة قبطية في مصر.

5-    المُقطّم (1889م)لأصحابها يعقوب صروف وفارس نمر  وشاهين مكاريوس كانت تناصر الإنكليز .

6-    المؤيّد(1889) لصاحبيها الشيخين: علي يوسف وأحمد ماضي ، كانت تعبّر عن أماني الوطنيين المصريين  وتنطق بلسان مصر الشعبية،  ومن أبرز كتّابها: محمّد عبده وسعد زغلول  وقاسم أمين ومصطفى كامل .

7-    الهلال (1892م) نشأت في القاهرة ، وهي واحدة من أرقى المجلات الأدبية للبناني جرجي زيدان  وماتزال تصدر .

8-    اللواء(1900م) للقائد الوطني المصري مصطفى كامل،  وكانت شعلة مُلتهبة من الوطنية الخالصة ضدّ الإنكليز.

9-    فلسطين (1911م) أصدرها في يافا عيسى العيسى واستمرت كأعظم صحيفة في فلسطين حتى العام 1967م، عندما صدر قرار حكومي بإغلاق كل الصحف والمجلات في ضفّتي نهر الأردن أواخر شهر آذار /مارس 1967م.

     والواقع أنه صدرت في العهد العثماني مئات الصحف العربية معظمها لم يُعمّر طويلاً ، لكن أكثر الصحف صدر في مصر ولبنان ،إذ في عقد واحد صدرت في مصر حوالى مئة جريدة على أثر صدور صحيفتي: المؤيّد والمُقطّم  في مختلف المواضيع والاتجاهات  ، كانت كلها باستثناء صحافة مصر تحت بطش الوالي العثماني،  والموظّف المُختص برقابة كل ما يُنشر، والذي يُدعى ب"المكتبجي" والذي من صلاحياته ضرب الصحافي العربي الذي يمسّ بهيبة "الدولة العليّة" فلقة، ببيته ! وهو ماحصل مع صحافيين لبنانيين عديدين منهم المرحوم سليم سركيس، ما اضطر أكثر من ست عشرة صحيفة لبنانية ومحرّريها للهجرة الجماعية إلى مصر  .