الحِراك الشعبي في الريف، المُقاربة الأمنية: تداعيات كارثيّة؟
الإنصات والاستجابة للحِراك الشعبي، المنطلقة شرارته من الحسيمة، بإطلاق سراح معتقليه وتنفيذ ملفه المطلبي العادل والمشروع، قد يشكّل القناعة المشتركة، المنطقية والواقعية والوجدانية المُفترضة لإيجاد مدخل نحو الثقة والاحترام الواجب، في أفق إقرار واستدامة المصالحة التاريخية مع الريف، كجزء لا يتجزّأ من الدولة المغربية، وبما يضمن توازنه، كجهة تاريخية من جهات الوطن المتعدّد، في سياق المصير المشترك.
فما معنى استبدال الدولة المُقاربة السياسية ولجوئها وانجرارها إلى الوصفة الأمنية، لاحتواء الأزمة بين الدولة والمجتمع، المندلعة شرارتها على خلفيّة الحِراك الشعبي، من مدينة الحسيمة، وقد دخلت شهرها الثامن؟
ولماذا يغيب التفاعل والتعاطي الإيجابي تجاه المطالب المشروعة والعادلة للحِراك الشعبي، ومن خلاله كل الانتظارات المجتمعية؟
يتابع الرأي العام الوطني والدولي، تفاعل وتداعيات احتجاجات الحِراك الشعبي، التي اندلعت شرارتها من مدينة الحسيمة، عاصمة الريف الأوسط شمال المغرب، منذ ليلة 28 تشرين الأول/أكتوبر 2016، على خلفيّة الوفاة المأساوية للشهيد محسن فكري، طحناً في شاحنة أزبال. لم يتوقّف، منذئذ، غضب واحتجاج ساكنة الحسيمة والحواضر القريبة منها، عن التعبير عن مناهضة الفساد والظلم و"الحكرة"...من خلال استحضار ذاكرة جماعية، بكل مكنوناتها وشحناتها الإيجابية أوالجريحة، وهي التي طلما طالها التهميش والإبعاد.
لقد تميّز هذا الحِراك الشعبي، المُندلعة شرارته من الحسيمة، عاصمة الريف الأوسط، بتظاهراته ووقفاته الإحتجاجية غير المسبوقة وباستمراريته، لأزيَد من سبعة أشهر حتى الآن، بالكثافة الواسعة وبالمحافظة على سلميته وتألّقه في صوغ الأساليب التضامنية والتعبوية لكل شرائح المجتمع، بما فيها المشاركة غير المسبوقة للنساء.
لقد شارك، بالفعل، في هذا الحِراك عديد من المواطنات والمواطنين، من مختلف الفئات والأعمار؛ وقد اتخذ، منذ بدايته، تنظيم أشكال احتجاجية من وقفات ومسيرات، اتّخذت في الغالب، طابع السلمية والإبداع في الأساليب التعبيرية؛ ورافعة شعارات ترتبط بالحرية والكرامة والعدالة الإجتماعية والهوية الثقافية والتاريخية؛ ومطالبة بالحق في الشغل والتعليم والصحّة، من خلال التأكيد على أن توفّر كل البنيات التحتية الضرورية لذلك، من مراكز تعليمية وجامعية ومراكز استشفائية وشبكة طرق ومسالك...
بالإضافة إلى المطالبة بالحق في التعبير عن الهوية الثقافية واللغوية والتاريخية، ومحاربة الفساد المُستشري وامتيازات اقتصاد الريع؛ وكذا رفع حال عَسكَرة المنطقة، بإلغاء مُقتضيات ظهير 1.58.381 الذي يُعتبر إقليم الحسيمة منطقة عسكرية؛ وفي الأخير المطالبة برفع كل أشكال التهميش الاقتصادي والمجالي، التي تُؤبّد وضعية العزلة في هذه الجهة من المغرب والعالم.
لقد أدّى ذلك الزُخم الاحتجاجي إلى تمدّد شرارة الحِراك واتّساعه، أفقياً إلى مجموعة من البلدات المجاورة لمدينة الحسيمة، أولاً، وبعدها إلى مدن وعواصم في الداخل المغربي وخارجه، خاصة في دول أوروبا، حيث التواجد الكثيف لمغاربة العالم، وبخاصة المنحدرين منهم من أصول ريفية؛ كما ظلّت ستَتَجذرُ نفس الشرارة، عمقاً، باستقطاب كثير من التقدير والتعاطف والمتابعة والاهتمام الواسع والتفاعل، بالتعليق وإبداء الرأي، وبالتالي الإقرار بشرعية القضية وعدالتها؛ بالنظر إلى تداعياته على كل المستويات السياسية والاقتصادية والسوسيو- ثقافية، كما على المسارات الإستراتيجية التي سبق وأن خطّها المغرب، من قبيل الانتقال الديموقراطي والعدالة الانتقالية والعدالة (هيأة الإنصاف والمصالحة) والعدالة المجالية أوالترابية (الجهوية المتقدّمة) والاعتراف بالتعدّد الثقافي واللغوي...
غير أن هكذا حِراك شعبي، سيشهد تحوّلاً خطيراً وانعطافاً مفتوحاً على المجهول، حيث نَفَذَ صبر الدولة من هاجس دينامية الحِراك وشرعيته المتنامية. فاستعاضت عن المُقاربة السياسية، وحَشرَت كل القضية في خانة المُقاربات الأمنية والقضائية والجنائية؛ فشنّت الأجهزة الأمنية حملة اعتقالات واسعة في صفوف نشطاء الحِراك، وتم تحريك متابعات قضائية في وجه نشطاء آخرين بسبب استمرار الاحتجاج أو بدعوى استعمال منابر التواصل الاجتماعي؛ كما حاولت مؤسسات الدولة تأليب الرأي العام باستعمال نفوذها الإعلامي العمومي والرسمي، وباستغلال هيمنتها على الحقل الديني (خطبة الفتنة 28 ماي 2017)، وتوظيف رعاياها للمواجهة في الميادين (العياشة). استمرت الاحتجاجات، باستبدال وإبداع أساليب جديدة، فبعد أن كانت تحتل الميادين والساحات الرئيسية، توزّعت عبر أحياء المدينة والحواضر القريبة، وقُرعت الأواني فوق سطوح المنازل...ابتعاداً عن تحرّشات القوى الأمنية وحصارها للساحات والمنافذ المؤدّية إليها.
وفي انتظار مبادرة سياسية وأخلاقية تراعي حساسية الوضع، بإطلاق سراح المعتقلين، بالعفو العام والشامل لجبر الخواطر، لتكون بمثابة المدخل لزرع الثقة بين الدولة والمجتمع، انعقد المجلس الوزاري الذي ترأسه الملك، كأعلى سلطة في البلاد، في الدار البيضاء يوم الأحد 25 يونيو 2017، عشيّة عيد الفطر، ليؤكّد وفقط، على خلاصات جاءت مضمنّة في البلاغ الصادر حينه، عن: استياء الملك وانزعاجه وقلقه لعدم تنفيذ المشاريع التنموية المخصّصة لإقليم الحسيمة، والمضمنّة في ما يُعرف ب:"برنامج الحسيمة منارة المتوسّط"، وهو الذي وُقع تحت رئاسته الفعلية، بتطوان في أكتوبر 2015، ما يعني أن الدولة تعترف، ضمنياً وليس صراحة بشرعية مطالب الحِراك الشعبي.
وفي غياب الاعتبار الواجب لحساسية الذهنية التاريخية والجماعية التي تحيط بالحِراك، والتي تندرج كذلك في سياق التحوّلات العنيفة، التي حدثت في الجهة العربية، منذ بداية ما سُمّي ب "الربيع العربي" (2011)، حيث شهدت عدّة دول عربية، بما فيها المغرب (20 فبراير) حِراكاً شبابياً واجتماعياً، تداخلت فيه كثير من المؤامرات والتدخلات الحربية، سواء بالمباشر أو بالوكالة، الشيء الذي عجّل بإحداث تغييرات سياسية وجيوستراتيجية، عصفت، ليس فقط، بعديد من الأنظمة، بل، حطّمت دولاً وأردَت مجتمعاتها قبائل وطوائف مُنشطرة ومُتناحِرة؛ ما فتئت تفجّر التناقضات الذاتية والموضوعية الكامنة في كل مجتمع مرّ منها؛ والنتيجة أن توارت إلى الوراء شعارات من قبيل:الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية... في معناها الإنساني والكوني لتحلّ محلها، وفي الصدارة، شعارات وانتماءات أكثر انغلاقاً وانحساراً من قبيل: الهوية الدينية أوالطائفية أو العشائرية ... كما تمثّلها تنظيمات إرهابية (داعش، القاعدة، النصرة...) التي استهوت آلاف الشباب، بخطابها الارتدادي الذي لم يكتفِ بدفن شعارات "الربيع العربي"، بل، طلّق كل المفاهيم الإنسانية والكونية.
ففي غياب التفاعل الإيجابي مع انتظارات مجتمعية واقعية ومشروعة وعادلة من قبيل مطالب الحِراك الشعبي، تكون الدولة قد أدارت ظهرها لمنطق التاريخ...فإذا كان أغلب المتابعين، من داخل المغرب أو خارجه يقرّون ويسجلّون بأن الدولة المغربية قد أدركت، حينها، وبميزان الذكاء السياسي ضرورة التعاطي الإيجابي مع انتظارات حركة 20 فبراير، فأنزلت إلى الواقع مشروع تجديد وتعديل للدستور الجامع (مارس 2011)؛ فيبدو الآن، أن العقل السياسي للدولة قد فقد صوابَه واستقال من مهامه التاريخية والاستراتيجية، لينزاح عنها بعيداً لصالح "الذهنية المخزنية" والتي من سماتها الاستقواء بالعنف المادي والرمزي والإخضاعَ بالهيمنة على الشرعية الدينية والإيديولوجية. إن هذا الانزياح والارتداد إلى الماضي البعيد أو القريب يشير إلى الحنين إلى سنوات الرصاص المغربية، وهي اللحظات الرهيبة والأليمة، التي استغرق القطع معها، حتى لا تتكرّر ثانية، جهداً كبيراً وبناءً عظيماً من الثقة المتبادلة بين أطراف المجتمع والدولة، قلّ نظيرها الآن، بالإضافة إلى توفير المهارة العالية في تدبير تجربة مغربية في العدالة الانتقالية.
فكما لا يمكن للدولة أن تستقيل من التزاماتها الماضية، فلا يمكنها كذلك إلا أن تنصُت لنبض الشارع والرأي العام بمؤسساته وهيآته الوسيطة وبحراكاته المجتمعية والمدنية، التي ظلّت تدعو إلى إطلاق سراح المعتقلين والاستجابة الجادّة للمطالب الاجتماعية والاقتصادية. فذلك هو المدخل لاستعادة الثقة بين مؤسسات الدولة والمجتمع. وفي هذا السياق وتجاه مطالب الحِراك، المندلعة شرارته من الحسيمة فقد أكّدت على ذلك تقارير مبادرات مدنية وحقوقية تقصّت الوقائع الميدانية، حينها وقدّمت توصيات في هذا الاتجاه. (لجنة تقصّي الحقائق المشكّلة من الائتلاف المغربي لهيآت حقوق الإنسان المبادرة المدنية من أجل الريف).
إن الأمل في استعادة الدولة لإرادتها المؤسساتية بالقطع مع "الذهنية المخزنية" وبالإنصات والاستجابة للإنتظارات المجتمعية هو العنوان الواضح والمباشر لبناء الثقة وترسيخ مسار بناء دولة الحق والقانون.
كما أن الإنصات والاستجابة للحِراك الشعبي، المنطلقة شرارته من الحسيمة، بإطلاق سراح معتقليه وتنفيذ ملفه المطلبي العادل والمشروع، قد يشكّل القناعة المشتركة، المنطقية والواقعية والوجدانية المُفترضة لإيجاد مدخل نحو الثقة والاحترام الواجبـ، في أفق إقرار واستدامة المصالحة التاريخية مع الريف، كجزء لا يتجزّأ من الدولة المغربية، وبما يضمن توازنه، كجهة تاريخية من جهات الوطن المتعدّد، في سياق المصير المشترك. فلا تتركوا أيادينا مشدودة على قلوبنا...ولا تتركونا عُرضة للقلق والارتياب والتوجّس، من الوطن والمصير المشترك.