هل أصبح تطوير الذات ضرورة مُلحّة؟
لم يكن ناصر طالباً عادياً في الجامعة، فتفوّقه واجتهاده انعكسا بشكلٍ مباشر على نتائجه، حاز شهادته الجامعية بدرجة ممتاز ما ساعده على إيجاد فرصة عمل في إحدى الشركات المالية. ظنّ أن مساره الوظيفي سيكون تصاعُدياً كحال مساره الأكاديمي، وواظب العمل بجدٍ واجتهاد مُلتزماً تأدية عمله بحرفيّة.
إن عملية تقييم الأفراد في المؤسسات تأتي بناءً على قدراتهم ومهاراتهم وتطوّرهم بالمقارنة مع زملائهم بخلاف التحصيل الأكاديمي حيث يدرس الطالب ويُمتحن فيتفوّق لينتهي المطاف بنيله الشهادة. أما في عالم الأعمال والمجتمع الوظيفي فعملية التطوير والتنمية أمر متواصل ودائم بسبب التغيّرات المُستمرّة في أساليب وأدوات العمل التي تتأثّر بالكثير من العوامل كالتطوّر العلمي والتكنولوجي. فمَن يكتفي بالتعويل على دراسته وخبرته فقط سيجد نفسه يدور في دوّامة وظيفية مفرغة وقد يُصبح خارج العمل كلياً بعد حين.
بالرغم من أن بعض المؤسسات تعمد إلى تنمية موظفيها بتطبيق نظام التطوير المهني المستمر بإخضاع العاملين إلزامياً أو اختيارياً إلى دورات تدريبية وإشراكهم بورش عمل مُتخصّصة وأحياناً بتقديم منح دراسية ما ينعكس بشكلٍ مباشر وفعّال على أدائهم في العمل ويفتح لهم المجال في التقدّم الوظيفي والمهني، الإ أنه لا بدّ من الاعتراف بأن أكثرية المؤسسات الموجودة في عالمنا العربي لا تدرك أهمية التنمية والتطوير المهني. لذلك يجد الموظّف نفسه أمام خيارين إما اعتماد أسلوب التطوير الذاتي والتعلّم الفردي ليتقدّم ويترقّى وإما الركود في مُستنقع وظيفته بإطارها المحدود الأفق.
يقول الفيلسوف الهندي جدو كريشنامورتي: " كلّما عرفت نفسك أكثر كلّما ازداد الوضوح حولك". لا يمكن للفرد في أي
موقع كان من التطوّر من دون تقييم نفسه، فعليه أن يُدرك جيداً مواضع قوته ليُحسِن
استغلالها، ويعي نقاط ضعفه ليصلحها، ويتنبه للفرص المحيطة به، ويُحسِن تقييم
المخاطر في بيئة عمله. إن استكشاف قدرات الذات بموضوعية يُعتبر من أهم عناصر النمو
والتقدّم الوظيفي والمهني، فهو الخطوة الرئيسية للخروج من حال التذمّر للسير في
درب التطوّر. ومن المُفيد أن يستمزج الموظّف اّراء زملائه مِمَن لديهم الخبرة
العالية ومسؤوليه المباشرين وغير المباشرين حول المهارات والكفاءات المُفيدة لتطوّره
المهني ليقوم من بعدها بالعمل على صقلها وتنميتها. فلا يمكن بأية حال من الأحوال الركون
إلى السجل الأكاديمي في مواجهة التحديات المهنية والوظيفية. فالتطوّر التكنولوجي
والمَعرفي المُتزايد والمُنافسة المُحتدمة يحتّمان علينا تعلّم مهارات جديدة
وتطوير المُكتسبة منها في محاولة لمواكبة العصر والبقاء على مستوى سوق العمل.
تتنوّع عملية تنمية المهارات، فمنها ما هو متعلّق بشكلٍ مباشر بصُلب الاختصاص الوظيفي كمشاركة موظف المبيعات في ورشة عمل مُتخصّصة حول فن الإقناع والتواصل، ومنها غير المباشر التي من شأنها المساهمة في تعزيز فهم وإدراك الفرد المهني العام كمشاركة المُحاسب بدورات لغة أجنبية.
في ظل تطوّر العالم الرقمي باتت وسائل وإمكانيات التنمية مُتنوّعة ومُتاحة، فنجد العديد من الدورات الهامة والمُفيدة التي تقدّمها جامعات مرموقة بشكلٍ مجاني أو شبه مجاني ( مثال COURSERA، EDX، وغيرها) وهناك أيضاً الندوات والنقاشات المُتخصّصة عبر الأنترنت -الويبنار (WEBINARS)، بالإضافة إلى إمكانية التدريب عبر الأنترنت وتعلّم اللغات وغيرها.
وكل هذا يأتي إلى جانب الوسائل التقليدية في تنمية المهارات كالمعاهد التي تنظّم دورات مُتخصّصة ومؤتمرات وورش عمل مهنية لتنمية قدرات الفرد ورفع كفاءته الاحترافية، ما يُتيح له الريادة في مساره الوظيفي داخل المؤسسة كما تُثري سيرته الذاتية لتجذب المؤسسات الأخرى.
من الخطأ الاعتقاد بأن عملية التطوير الذاتي مرحلية ومُحدّدة إنما هي عملية دائمة ومُستمرة وهذا ما يؤكّده الخبير في مجال التنمية البشرية بول توماس بقوله : "التنمية الذاتية ليست هدفاً يتحقّق، إنما عملية متواصلة ومُخطّطة".
ليس متوقعاً أن يتبوأ ناصر مركزاً أعلى ولن يحظى بفُرصٍ قيّمة طالما أنه قرّر التعويل على إرثه الأكاديمي من دون تطويرٍ وتحديث. فالشهادة العلمية التي أدخلته سوق العمل لا تضمن له الترقّي والبقاء في الوظيفة إنما عليه اعتماد استراتيجية تطوير الذات وتنمية المهارات ليصبح مُرشّحاً لمنصب أعلى ويحظى بعروض خارجية مُجدّداً.