جوكر التُراث
لسنا مُتّفقين على التُراث وهذا يكفي لنفي وجود أرضية اجتماعية صالحة لتوليد مجتمع من لدن معارفه، فالمجتمع تعاقُد حقوقي بين مُتساوين، وليس تعاهداً بين فئة تعتنق إحدى قراءات هذا التُراث.
-
- 10 كانون الأول 2016 16:50
جورج طرابيشي
هل نحن كتجمّعات
سُكّانية عربية أو مُسلمة مجتمعون على تُراثنا مُصطلحون عليه لدرجة أنه يصلُح
كأساسٍ لعقد اجتماعي قادر توليد دولة وبالتالي إعلان هوية مفهومة ويمكن
التفاهم معها، بما يعني أن هذا الإجماع وهذا الإصطلاح قد أرسى نوعاً من أنوع
المجتمع بأي معنىً كان؟، أم نحن مُختلفون فيه وعليه لدرجة سَفك الدماء وانتهاك
الأعراض؟ فإذا كان الجواب نعم على أساس أن التُراث هو الحل أو من المُمكن الوصول إلى
حلٍ عبره، بإحلاله مكان المُعاصرة التي قدّمت تكنولوجيات ناجِزة يُمكن تبييئها كي
تتفاعل مع الواقع، تكنولوجيات يُمكن استخدامها كمُنجَزعقلي وعقلاني من أجل إحداث
المجتمع وتوليد دولة وإعلان هوية؟
ليس لعاقل، بعد
أن رأى ما حصل وما يحصل وإن قُدّر له سوف يرى مستقبلاً نتائج اعتماد التُراث
كتكنولجية قادرة على اقتراح عَقد اجتماعي ما، مهما كَبُرت أكثريات الإجماع عليه،
إذ تكفي خليّة "إرهابية" نائمة أم مُستيقظة، سرّية أو علنية لتهزّ
أركان أي إجماع أكثروي من جذوره، هذا إذا أهملنا وسائل التثقيف والتعليم التي تُظهِر
باطل الآخر المُختلف على التُراث وفيه، أكثر مما تُظهِر الحق التي هي عليه، فما اعتادت
عليه هكذا ثقافة هو تعريف الذات بأنها عكس آخر ما، ليبدو الغزو (الاقتتال) هو
الحريّ بحل المشكلة، وبالعودة إلى العقد الاجتماعي ومُستحقّاته، فإننا نكتشف أن
التُراث من ناحية هذه المُستحقّات لا يُلبّي حتى الحد الأدنى منها، وليس هناك من
حلٍ إلا رفض العقد الاجتماعي كتكنولوجية مُجرّبة توحّد السكّان ثقافياً في ظِلال
المساواة، بما يُعاكِس تماماً مفهوم الاختلاف على التُراث وفيه، والذي يُمثّل
(أي الاختلاف) استمرار تأثيرات اعتماد التُراث كثقافة على واقع التجمّعات السُكّانية
كما نراها اليوم.
لا تصالح ولا اصطلاح
على التُراث وفيه، بين مَن يدّعون أنه يحمل الحل، وهنا لا نقصد الكُتَل
التُراثية الكبيرة والفروقات الدامية بينها، وكذلك لا نقصد الفروقات المؤثّرة
داخل هاتيك الكُتل، بل نقصد تلك القراءات المُفردة للتُراث بين عالم وآخر، وهذا
ما يُفسِد للودّ كل قضية في العالم الواقعي، فالمسألة هنا وعلى الرغم من المقولات
حول الاجتهاد وجزائه، لا تحتمل الخصومة بل تتّجه إلى العداء مباشرة حيث يبدو
التسامُح كتعايُش على مَضَض في انتظار فُرصة الغزو، فحتى القراءات المُفردة وإن
كانت تتم في ظِلال الفكر المُعاصِر فهي عُرضة لخلافات حدية لا تترك للصلح مطرحاً
أو للودّ قضية غير فاسدة (وهذا ما حصل على الأقل بين عابد الجابري وطيّب تيزيني
هذا إذا تناسينا جورج طرابيشي).
فإذا غَضَضنا
الطرف (وهذا فانتازيا) عن المُجالدة الحاصلة بين الكتل الكبيرة المختلفة على التُراث
وفيه، فإننا مضطّرون وبالضرورة إلى ملاحظة مؤدّى الاختلاف بين الكتل الصغيرة في
الكتلة الكبيرة نفسها، والتي شغلتها المجالدة الكبرى عن التدقيق في القراءات
الأخرى القريبة منها، وهذا ما يُنبىء وبالضرورة بمجالدة داخلية بين هذه الكتل
الصغيرة المؤلّفة للكتلة الكبرى،لا بل في داخل هذه الكتل الصغيرة بما لا يدع مجالاً للشك في وقوع مجالدات أخرى قد
تنتهي ظاهرياً بغالب ومغلوب، ولكن التُراث خزّانٌ لا ينضَب من الخلافات والاختلافات
فيه وعليه، فما هي إلا وهلة ويعود العداء إلى تحشيد "الوعي" تحضيراً
للغزو من جديد.
لا يمكن التعويل
على التُراث (أيّ تُراث) في إنتاج المجتمعات والدول، فالتُراث لا يعرف أو يعترف
بالمساواة، كما لا يعترف بالحرية الفردية وبالتالي بالإبداع، ما يصرف الانتباه
عن الاجتماع البشري كمعرفة وتكنولوجية (وهذا ما يُفسّر إلى حدٍ ما افتقادنا لعُلماء
الاجتماع)، فعلى الاجتماع البشري أن يكون مُناسباً له، بمعنى تحميل الاجتماع
البشري مُهمّة تشريفه (أيّ التُراث) في عملية مُعاكِسة تماماً للسيرورة البشرية،
فالتُراث وفي كل قراءة له لا يحتمل التخطيىء أو النقض، لدرجة أن حتى خُرافاته
وأساطيره تصبح بحُكم الحقيقة، وكذلك استنتاجات قراءاته "الحداثية" أو
المحافظة تصبح بحُكم الصواب (هشام جعيط مثالاً)، وما على الكائن البشري إلا
التبجيل والانقياد حتى لو أدّى الأمر إلى كارثة.
مع أن الخلاف على
التُراث وفيه، لا يبدو المشكلة الكبرى أو الأخطر على الرغم من النتائج الكارثية
التي أوصلنا إليها هذا الاختلاف، ولا يمكن القول أن المشكلة في التُراث نفسه كونه
انقضى من جهة، ولكون هذا الرأي يوقِع معارك جِزافية إضافية أخرى حيث تتمظهر
المشكلة بسحب الحاضر إلى الماضي ومُحاكاته، ليتم القضاء على تصوّر الماضي كبيئة
وثقافة مسؤولة بالدرجة الأولى عن إنتاج هذا التُراث، ليبدو هذا التُراث بتطبيقاته
الثقافية سرمدياً، فمهما حصل من تطوّرات معرفية أو إنتاجية يبقى التُراث المُختلف
فيه وعليه صحيحاً ويمكن تطبيقه واقعياً بمعنى التأسّي به وإحيائه، وهنا تبدو
المشكلة تأخذ طوراً عولمياً حديثاً ولكن بمضمون تُراثي، ما يفتح الباب لتوسِعة رُقعة
الخلاف فيه وعليه.
تُراثنا ليس
واحداً موحّداً يُمكن الإصطلاح والاتفاق على صلاحه وصلاحيته، فهو كتلٌ مُتفرّقة
حسب القراءات واستنتاجاتها، وحسب البيئات الطبيعية والثقافية وتأثيراتها، وحسب
الأزمان المُتمايزة كل فترة عن أخرى من الناحية المعرفية ،وكذلك والأهم هو مرجعيّات
هذا التُراث التي تتناقض وتتعاكس في مرويّاتها الشفاهية والمكتوبة بدرجات فاقِعة
لا يمكن الاتفاق حولها، فأين هي المعرفة المتينة الارتقائية التي يُمكن التعويل
على التزوّد بها منه؟
لسنا مُتّفقين
على التُراث وهذا يكفي لنفي وجود أرضية اجتماعية صالحة لتوليد مجتمع من لدن
معارفه، فالمجتمع تعاقُد حقوقي بين مُتساوين، وليس تعاهداً بين فئة تعتنق إحدى
قراءات هذا التُراث.