العَزف على الوَتَر السوري من منطقة الباب

انتصار الجيش العربي السوري في حلب غيّر قوانين اللعبة بكاملها. حيث أن المعركة اليوم لها وَقع عالٍ في المواقف الدولية خصوصاً أن الساحة خالية حتى اكتمال تشكيل الإدارة الأميركية الجديدة، والسيطرة على حلب ستعزّز السيطرة على باقي المناطق كـحمص ودمشق وحماه واللاذقية، إن لم يكن البدء باستعادة المحافظات الخارجة عن السيطرة السورية، حيث أن الحلفاء مُتعطّشون لفرض كامل سيطرتهم على حلب قبل استلام إدارة دونالد ترامب لمهامها، ليفرضوا بشكلِ قطعي على الرئيس الأميركي الجديد سياسة الأمر الواقع بشأن أشهَر جبهة في الحرب السورية.

المعركة اليوم لها وَقع عالٍ في المواقف الدولية خصوصاً أن الساحة خالية حتى اكتمال تشكيل الإدارة الأميركية الجديدة
مع ازدياد المشهد السوري وضوحاً بإعلان النصر على آخر المجموعات المُسلّحة في معركة "حلب"، تشهد الساحة العالمية تحرّكات بالجُملة في محاولة لعب دورٍ بارزٍ يسمح بإعادة الإمساك بأوراق اللعب للعزف على الوتر السوري، ويُعيد مسار المفاوضات بحصّة مُمتازة من المصالح لسكّة الحلول تجانباً مع العمل العسكري في أعلى مستوياته، ما سيسمح بخلق صفحة جديدة لجميع الأطراف، قد تتغيّر معها حظوظ اللاعبين وتفتح  لهم بوابة مكاسب جديدة في ظلّ  تحرّكات أوسع. وإن كانت النتائج الحالية تُنبِئ بأن كل شيء يصبُّ في مصلحة (الرئيس السوري بشّار) الأسد وحلفائه، ولكن المفاجآت الميدانية قد تقلب كل التوقّعات.

فانتصار الجيش العربي السوري في حلب غيّر قوانين اللعبة بكاملها. حيث أن المعركة اليوم لها وَقع عالٍ في المواقف الدولية خصوصاً أن الساحة خالية حتى اكتمال تشكيل الإدارة الأميركية الجديدة، والسيطرة على حلب ستعزّز السيطرة على باقي المناطق كـحمص ودمشق وحماه واللاذقية، إن لم يكن البدء باستعادة المحافظات الخارجة عن السيطرة السورية، حيث أن الحلفاء مُتعطّشون لفرض كامل سيطرتهم على حلب قبل استلام إدارة دونالد ترامب لمهامها، ليفرضوا بشكلِ قطعي على الرئيس الأميركي الجديد سياسة الأمر الواقع بشأن أشهَر جبهة في الحرب السورية.

ومع تعاظُم وَقع العمليات العسكرية، ستبرُز منطقة الباب في الأيام القليلة المقبلة بصفتها البوابة للصِراعات المستقبلية ونقطة تقاطُع الحسابات العسكرية، حيث تكتسب أهميّتها الاستراتيجية من تعدّد القوى التي تريد وضع يدها عليها، وعلى رأس هؤلاء الدولة السورية باعتبارها صاحبة الحق الحصري في أراضيها، والتي تنظر إلى تحرير الباب كنصرٍ ميداني يُقرّبها من الحدود الإدارية للرقّة، وبانتظار تجلّي المشهد عن حجم القوات التركية التي ضُخّت للاقتراب من المدينة، ومقدار القوات الكردية الفعلية المُتجمّعة هناك، وملامح التفاهمات الروسية- الأميركية، سيبقى الوضع الميداني يحتمل خيارات عدّة.

فـ"داعش" و"تركيا" والانفصاليون الأكراد وجوهٌ لعملةٍ واحدة وهدفٍ واحدٍ هو خدمة مصالح العمّ سام الذي يتربّص كالثعلب علّه ينال نصيباً من كروم دمشق وإن كان حُصرُماً، ليس عبر إسقاط النظام السوري، وإنما عبر المفاوضات والضغط العسكري، فليست خافية عليه أهمية منطقة الباب بالنسبة إلى سوريا، حيث زاد احتمال قرب السيطرة عليها من قِبَل تركيا، وما تسرّب من أنباء عن لقاء عسكري تركي-أميركي، يُرجَّح أن يكون عبارة عن صفقة بين الجانبين بخصوص تقدّم الغزو التركي، مقابل موافقة تركية على إفساح الطريق أمام "قوات سوريا الديمقراطية" المدعومة أميركياً لتحرير "الرقّة"، فتفضيل "واشنطن" النار الخفيفة لن يمنعها من تحقيق أهدافها بتقسيم المنطقة، حيث لا تزال تُمسك بالمُعطيات التي من شأنها دفع السياسة التركية في الاتجاه المُنتج لها.

لذا أظهر الجانب التركي اهتماماً كبيراً بالسيطرة على الباب، فصحيفة "حرييت" المُقرّبة من (الرئيس التركي رجب طيّب) أردوغان سمّتها "مفتاح مستقبل تركيا في سوريا"، وكان أردوغان قد صرّح سابقاً: "إن قواته على تخوم المدينة وأن تحريرها من "داعش" بات مسألة أيام" ، ومنذ ذلك الحين والقوات التركية تراوح خارج المدينة حيث تطلّب الأمر لسيطرة "درع الفرات" على بلدتي دابق وتل رفعت وإطلاق معركة الباب نحو شهرين، فالرغبة التركية بقطع الطريق على الأكراد عبر تطويق عين العرب وعفرين أدّت إلى تأخير تحقيق أهدافها وتشعّبها من الباب إلى منبج ثم الرقّة، رغم أن أنقرة تُدرك أنها تحتاج إلى منطقة الباب أولاً، حيث تمثّل بحثاً عن حلولٍ جديدة مع روسيا لإعادة التوازن لمصالحها خصوصاً بعد مناقشة خط الغاز "تركيش ستريم"، والبدء بتنفيذه في إطار صفقة سياسية بملامح اقتصادية، ستمنح تركيا مكانة عالية تمكّنها من لعب دورٍ بارزٍ مستقبلاً لجهة تحديد قيمة الغاز الذي سيعبر أراضيها وصولاً إلى البحر الأسود. 

أما الأكراد فيحملون ورقة مفاوضات مدعومة من الجانب الأميركي علانيةً، باعتبارهم الشريك الأول على الأرض والإبن الضّال الذي وُجِد لإعفاء واشنطن من إنزال قواتٍ عسكرية، وهو أمر كانت مُصرّة على تجنّبه منذ بداية الأزمة السورية، فالقوات الكردية قد تحضّرت سابقاً لدخول الباب من محورين لأنها تُشكّل المنفذ الوحيد للرّبط بين المجموعات الكردية، خصوصاً بعد دخول الأتراك إلى جرابلس ومارة، ولكن قواتهم أيضاً لم تُسجّل أية نتائج على الأرض، فـأميركا تريد توجيه البيدق الكردي للوصول إلى الرقّة لا الباب لمنع صِدامٍ مباشر بينهم وبين الأتراك، حيث أن منع قيام الدويلة الكردية يُشكّل الهاجس التركي الأول باعتباره تهديداً صارخاً لأمنها، وهو حدث مرفوض من باقي الأطراف المُتصارِعة، فـسوريا والعراق وإيران وحتى روسيا تتشارك الهدف في إرادة منع قيام كيان كردي سيؤثّر سلباً على مصالحهم.  

 من جهة أُخرى، إذا خسر تنظيم "داعش" الباب فسيقطع التواصل بين الرقّة وحلب، لذا بدأ بشنّ سلسلة هجمات مُتزامنة ومُباغتة على حقول النفط والغاز في ريف حمص الشرقي وسيطر على تدمر لتشكيل مركز انطلاق مستقبلي كبير وآمن يمكن أن يتّخذه كنقطة انطلاقٍ ثابتة لفتح جبهات جديدة في حمص والقلمون غرباً ومن ثم دمشق.

سوريا من جهتها تنظر إلى الباب على أنها بوابّة لاستعادة الرقّة ومفتاح لوقف التدخّل التركي المباشر في أرضها، وطريق لصدّ الطموحات الكردية الانفصالية. وكانت مصادر عسكرية سورية أكدّت أن الجيش السوري وحلفاءه استكملوا الاستعدادات اللازمة في انتظار ساعة الصفر للانطلاق في معركة لن تكون سهلةً، خصوصاً أن الأميركي يسعى إلى خلط الأوراق بالضغط على عملائه، وتبدو التصريحات التي تولي اهتماماً خاصاً بـالرقّة منصبّة على تضخيم المعركة من دون توفير التُربة اللازمة لضمان تحقيقها.

أما روسيا فقد أثبتت تفّوقها في الإمساك بالملف السوري لإدارة التجاذبات الإقليمية والدولية، وهي إن تمكّنت من التوصّل إلى صيغة مُناسبة لدور إيران وحزب الله في سوريا ولبنان، فبوسعها أن تحصل على اطمئنان إسرائيل لاستمرار تفوّق كيانها العسكري وضمان أمنها، وبالتالي الإمساك بقوانين اللعبة السياسية وليس أوراقها، فليست سلسلة التحوّلات في العلاقات والاتفاقيات العسكرية والاقتصادية والسياسية إلا جزءاً من مشاريعها بالسيطرة على أوراسيا خصوصاً بعد الاتفاقات الأخيرة مع أذربيجان وإيران وتركيا وضمّ جزيرة القرم، وبعد زيادة حصّة الصين من الغاز الروسي.

 تبدو المنطقة اليوم مؤهّلة للانضمام تحت الجناح الروسي بقبضة سياسية لا عسكرية على الطريقة الأميركية، لتبقى التصريحات الدبلوماسية حول الرغبة بالوصول إلى اتفاق لحل الأزمة السورية لا يزيد عن قنبلة صوتية تُرمى في الساحة، ما يجعل الميدان العسكري السوري القطار الذي يُحدّد جهة الوصول للغلبَة في الحل السياسي.