وقل رب زدني علمانية
إن الإفلاس المتعدّد الذي تشهده الدول الهابطة مردّه لأسباب كثيرة. بعض مظاهرها أساسي، متشعب ومعقّد، يدخل فيه الخاص بالعام، ويصير مباحاً فيه كل شيء انطلاقاً من مبدأ "تحوير السلطة".
إن المدخل إلى الدولة العادلة يكون في تطبيق الأحكام المدنية التي تضمن المساواة بين الجميع من خلال الاعتراف بالأشخاص كمواطنين من دون النظر إلى جنسهم أو دينهم أو عرقهم أو أي شيء آخر. إنّ وحدة نظام الدولة ووحدة تشريعاتها الدستورية وشمولها الجغرافي والمجتمعي هي أحد الحلول التي يجب اعتمادها لحل مشكلة الدول ذات التعدّد الإثني، المذهبي، الطائفي أو ما تعداه، حفاظاً على التعدّدية الدينيّة، السياسية والبعث الحضاري المتنوّع، وعلى إيجاد الحاضن الأساسي للتناغم السليم بين كل مختلف لقيام رؤى وأهداف موحدة للمجتمع الواحد والحياة الواحدة. وإلا يبقى الاتصال بين الأشخاص "تعايشاً" يشوبه انعدام أبسط القواسم المشتركة الموحّدة، وبالتالي يسقط المجتمع التعدّدي بتركيبته من الداخل. ويكون بغنى عن إيجاد العدو الخارجي لإسقاطه أو إضعاف مناعته القومية. لكن هذا الحل يبقى علاجاً خارجيّاً ضرورياً كشكل من أشكال تركيب نظم الدولة. لكنه غير كاف، لأنّ جذور المشكلة ربما تكون قائمة في النفوس، وتحتاج إلى منهاج تربوي يقوّي ارتباط المواطن بالدولة وبسيادتها. أو ربما تغذّي مشكلة انفراط العقد الداخلي لوبيات عنصرية، أوجماعات الضغط المرتبطة بالخارج، أو أفكار مستبدة أو أطروحات انعزالية، ديكتاتورية، أديولوجية. إن قيام الدولة المدنية يساعد في إيجاد حل إداري بالدرجة الأولى لمشاكل الدولة وليس حلاًّ فلسفياً، وإن تجاهلُ الموجود الفاعل سلباً في نفوس المواطنين لا يُقيم المجتمع الواحد. إن الإسلام المشرقي المسيحي والمحمّدي بعد قيام منظومة الدول المستجدة تحديداً في العالم العربي، تجذّر في خدمة المصالح السياسة للأنظمة. ولهذا الاستبداد الديني والمذهبي مجرموه الحقيقيون، لأنه لا يقيم وزناً للعقل الجمعي، بل هو بحد ذاته "أناني" يتعاطي مع فئة دينية من المواطنين وبتشريعات فئوية تقيم الحواجز وتعزل أبناء الواطن الواحد، وتقيم على خلافاتهم نظريات "الإجهاف الطائفي". إذ ليس هذا الموضوع شيئاً رائعاً يُقتدى به. إن ما يجب أن نكون عليه هو أن نتوأم في بطن النظام المدني الذي يستوجب أن يكون مديراً لمشاكل المجتمع بأشخاصه وجمعياته وأحزابه وباقي قواه الحيّة والمؤثرة وتناقضاته بما فيها الاختلافات والخلافات المتأتية من المعتقدات الدينية للأشخاص. إن الدين هو مدى الروح، إذ ليس سلطة مدنية ولا يجب أن يكون كذلك، فالأديان تحضّ على قِيَم التلاقي الروحي. أو يفترض بها أن تكون كذلك. الدولة تحضّ على ارتباط المواطنين بها مصلحياً. إذا، عمق المشكلة في نفوس المتفاعلين تحديداً في عدم القبول بالآخر المختلف والمتغيّر والمتنوّر ثقافياً ومعرفياً وعقلياً. وأتوافق مع القول: "قبل أن تقتنعوا بالعلمانيّة، اقتنعوا بعضكم ببعض". ولاحقاً، إن الحفاظ على التمييز الواضح بين الدينيّات والسياسيات هو إضافة للدولة المدنية القوية، وهذا يُبقي الدرب سالكاً للروحيّات التي يجب أن تبقى إحدى مصادر الإلهام الحضاري. الحضارات البشرية المتقدمة هي تراكم الجيد والمحقّ والممكن والأحسن من إرث الشعوب الذي تستفيد منه المجتمعات وتتباهي به. ربما هذا التراكم هو ليس المتوخّى والنهائي والأمثل لنا، لكنه شيء كبير وكثير نتطلّع إلى أحسنه في أوطان تشبه "الموزاييك" الذي إذا نطق انكسر. لِمَ لا تكون العلمانية استقلالية الدولة والمجتمع ومؤسساتهما وقضاياهما وسلطاتهما عن الدين؟ استقلالية لا استقلال، ولا محاربة ولا تجاهل، بل حياد إيجابي حيال الأديان والعقائد، ونأي بالنفس عن تحقير القِيَم والمُقدّس الروحي أو تبديده، وحياد يحترم روحية المكنون، بل حياد يفسح المجال للتعاون. حياد يؤكّد أيضاً على عدم تدخّل الدين في تنظيم المجتمع والدولة، وعدم تدخّل سلطة الدولة في الحياة الدينية للأشخاص والجماعات إلاّ من باب القوننة والتشريع، وعدم هيمنة الدين على الدولة كذلك عدم هيمنة الدولة على الدين. إن الدولة المدنية هي نعمة المجتمعات المتقدّمة، هي توأم العلم الذي ينفع وينتج لنا مجتمع القوة. فلا تجتنبوها! قال المُفكّر أنطون سعاده: "إن المجتمع معرفة والمعرفة قوة". إلى ذلك الربيع دُر. الربيع الذي لا تكثر فيه الطوائف والمذاهب، والأفخاذ ونتعرّى به جميعاً، بل يكبر الوطن. وبعدما تسرطنت في مجتمعي عقائد الخوف رأيت لزاماً أن يكون قولي والعمل، وأيضاً في حالات الحشرة وانحسار السياسات القومية إن أحسن الدعاء: "وقل رب زدني علمانية".