إمبراطوريات تأفل.. وتستمر "الميادين"

ولدت قناة "الميادين" رافعة شعارات متوائمة مع رؤى الحلف الشرقي، فشكّلت رأس حربته الإعلامية، من دون أن تتبنى طروحاته ومشاريعه بصورة مباشرة. حرفيتها المهنية أبعدتها عن الخطابية المدافعة عن محور معيّن، رغم أنها شكّلت لاعباً فاعلاً فيه، وكشفت الكثير من المستور خصوصاً في استخدام المذهبية المنتجة للحركات الجهادية المقاتلة والقادمة من كل حدب وصوب.

وقفة تضامنية مع الميادين في الناصرة
قيل الكثير عن هزيمة الإمبراطورية العظمى الولايات المتحدة الأميركية في الحروب التي تدخلت فيها مباشرة في عدد من الميادين العالمية، والأبرز افغانستان والعراق. وقيل إن الدولة الأقوى في العالم، وبنتيجة هذه الخسارة، ستغيّر من استراتيجيتها، وستغادر الشرق الأوسط الذي لم يعد يؤمن شيئاً من مصالحها، كما أنه أفشل آخر خططها واستراتيجيتها التي عرفت ب"الفوضى البنّاءة" التي راهنت عبرها على إعادة رسم خريطة المنطقة، ووضع حدود جديدة لدول هزيلة على أسس مذهبيّة وإتنية، تتمكن من خلالها من السيطرة على المنطقة لآماد طويلة، وسعت لتحقيق تلك الغاية إلى ضرب الدول الاقليمية المتوسطة القوة كإيران والعراق وسوريا.

مقاومات مختلفة في ميادين الصراع فرضت على الأميركي التراجع، وتغيير استراتيجيته، وظهرت طروحات جديدة ركيزتها التوجه نحو الشرق الأقصى حيث المارد الصيني الصاعد، ويفترض بنظرها محاصرته وإرباكه، من جهة، وحيث مشروع "الأبيك" (منطقة آسيا-المحيط الهاديء) الذي تراهن الولايات المتحدة عليه لتأجيل مأزقها التاريخي، وفقاً لما أوحى به   خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما في قمة هونولولو، في آب ٢٠١٥، وهي قمة عقدت لتفعيل مشروع "الأيبك". 

في خطابه في تلك القمة، قال أوباما: “أشدد على أن منطقة آسيا-المحيط الهادىء حاسمة جداً للنمو الاقتصادي ولأميركا. نعتقد انها أولوية مطلقة لأننا لن نتوصل الى اعادة مواطنينا الى العمل والى تطوير اقتصادنا وزيادة منافذنا اذا لم تزدهر آسيا-المحيط الهادىء أيضا، في حين ان النمو الاقتصادي لدى الشريك الأوروبي معدوم”.

يتجه الأميركي إلى الشرق الأقصى وفي نيته إنعاش اقتصاده، وحصار الصين. قال الأستاذ الأميركي المشرف على دراستي الجامعية ٢٠٠٤ في حوار عام معه أن أكثر ما يخيف بلده الولايات المتحدة الأميركية هي الصين، ليس بما تطوره من اقتصاد فحسب، ولا بما تملكه هي وروسيا من أسلحة نووية، بل في ما تبنيه من مركز كبير لداتا المعلومات الذي لا تملكه اية دولة إلا الولايات المتحدة الأميركية عبر اختراعها وتطويرها للأنترنت. والصين، كما قال، ستنجز إنشاء المركز في غضون عشرين عاماً منذ أوائل الألفية الثالثة، بمعنى آخر أنها قطعت أشواطاً به بعد  خمس عشرة سنة تقريباً، وتشارف على إنهائه في سنوات قليلة.

وفي العام ٢٠١١، شنّ الحلف الأطلسي هجوماً على ليبيا. كانت روسيا لا تزال في سباتها الناجم عن انهيار الاتحاد السوفياتي. تدخل الحلف الأطلسي أشعر روسيا بخطر قادم. لقد وصلت النيران إلى مجالها الحيوي التاريخي الشرق الأوسط، وتحديداً سوريا، بعد أن انسحبت منه منذ مائة عام تقريباً، ولم تنس أهميته الحيوية بالنسبة اليها كامتداد استراتيجي، وإيديولوجي (الحج)، واقتصادي (معبر خطوط النفط القادمة)، وإطلالته على مياه البحر المتوسط الدافئة التي تفتقدها، فوقفت في بداية الأزمة السورية إلى جانب سوريا لمنع سقوطها كما سقط العراق وتطور تدخلها إلى العمل العسكري المباشر.

أما إيران، وهي واحدة من الدول التي تلعب دوراً هاماً في المنطقة، فهي ما تزال تعاني من تهديد خارجي رغم التوصل إلى الاتفاق النووي مع الغرب، ولا تزال مخاوفها من نوايا أعدائها قائمة، كما أنها بحاجة إلى مياه المتوسط، والحفاظ على مجالها الحيوي في العراق وسوريا، ما أمكنها إلى ذلك سبيلاً.

بين حاجة الولايات المتحدة الأميركية إلى الشرق القصى كمتنفس يبدو وحيداً، وربما أخيراً، لها بحسب تعبيرات رئيسها أوباما، ونهوض الصين ومصيرية استمرارها، وتناميها، ويقظة روسيا، وتحفّز إيران لمكانة تحافظ فيها على ما أنجزته ثورتها، تبدو هذه الدول في وضع مصيري لكل منها، فإما تستمر وتواصل مخططات مستقبلها، أو تصطدم بالحائط المسدود، ومآل الاصطدام قد يكون مأزقاً تاريخياً لا قيامة من بعده.

في هذا الواقع، تتداخل القوى المتصارعة في سوريا، وتستخدم  فيه عسكرة الإسلام السياسي السلفي الجهادي الذي أنتجت له المملكة العربية السعودية عشرات آلاف طلاب الشريعة على الطريقة الوهابيّة السلفية، وفي كافة مجتمعات العالم الإسلامي، فشكّل لها، وللمحور الذي يوظّف قوتها في معركته، رافداً غزيراً من المقاتلين العقائديين الذين يبدو منهلهم نابضاً بقوة، وغير ناضب في المدى القريب. 

وأمام التدخل الروسي في سوريا، تحاول الولايات المتحدة إعادة النظر في استراتيجتها، وتتخلى عن الانكفاء عن الشرق، فيتفاقم الصراع، ويرجّح أنه سيتصاعد، فكل دولة من الدول تواجه في المعركة مصيراً أشبه بالمصير الوجودي.

مطلع القرن الماضي، تنبأ الزعيم السوفياتي لينين بنهوض آسيا. لكن تطورات كبيرة حصلت- الثورتان الصينية والفييتنامية، والحرب الباردة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية- أجّلت ذلك النهوض إلى اليوم حيث تبدو الصين صاعدة بقوة، وروسيا مستعيدة دورها التاريخي، وإيران على خط النهوض عينه، نهوض كبير يخيف الحلف الآخر، فتعود الولايات المتحدة الى التدخل في الشرق الأوسط عبر سوريا. 

وفي هذه المعمعة، ولدت قناة "الميادين" رافعة شعارات متوائمة مع رؤى الحلف الشرقي، فشكّلت رأس حربته الإعلامية، من دون أن تتبنى طروحاته ومشاريعه بصورة مباشرة. حرفيتها المهنية أبعدتها عن الخطابية المدافعة عن محور معيّن، رغم أنها شكّلت لاعباً فاعلاً فيه، وكشفت الكثير من المستور خصوصاً في استخدام المذهبية المنتجة للحركات الجهادية المقاتلة والقادمة من كل حدب وصوب. دافعت عن فلسطين، وعن حق الشعوب في تقرير مصيرها، عن العدالة الاجتماعية، والتآخي، ورفض عدوان الاستكبار العالمي. 

دافعت "الميادين" بصورة غير مباشرة عن نهوض آسيا، وصعود دولها الكبيرة، وهاجمت بطريقة غير مباشرة الحلف الآخر المنكفىء. وبين آىسيا الناهضة -بحسب تقدير لينين- والحلف الآخر المتخبط  بغموض الرؤيا، يتهدّد الأفول دولاً كبرى.. لكن "الميادين" تنهض وتستمر.