التربة والبذرة فالغرسة
في غرفة صغيرة مظلمة بكت نساء كوبا مأساة غزّة، وترقرق الدمع في عينيّ من فرط إحساس بالتأثر والتأثير جاشت به نفسي.
فريق الميادين في القاعة المنتفخة الأوداج بما تغصّ به من زوار يعمل من دون كلل أو ملل .. أحاديث ، تحليلات ، لقاءات ومقابلات.. أجول بعينيّ في المكان وأصيخ السمع فلا يتناهى إلى مسامعي غير كلمة فلسطين والتحرر من الاحتلال ، وغير البوصلة التي أُعيد توجيهها إلى فلسطين.
تقولون ثم ماذا؟ ومالنا الآن ومهرجان هافانا ونحن في كبد ومخمصة وقد تكالبت علينا الأحزاب وتكاد تخترق خندقنا فتطفئ نور الحقيقة وتخمد نار المعرفة والهدي إلى قبس الرؤية المستنيرة والرأي المستقيم بالوعي والإدراك فيستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ؟! على رسلكم فالعصا لا تمسك من المنتصف إلا من متخاذل يستميل أنصاف الحلول طمعاً في البقاء على الجانب الآمن أياً كان .. التاريخ عصور وحقب وعهود ، والدول دوال وزوال ، وأنا ابنة الميادين لم أشهد ولادتها في دارها لكني شهدتها في عقر داري أنا ، فلسطين ، غزّة ، وشاهدت تدفقها من القمقم كمارد يعصف بسكون الخامدين اللا مبالين في هذه الدنيا ويمزّق صمت القبور .. وأشهد أنها في غزّة تنقل الواقع فوق الأرض أو تحتها .. وتقتسم مع أهلها الأتراح قبل الأفراح .. فتعيش مع فلسطين قلباً وقالباً.
ولأن لكل مشوار طال أم قصُر بدايته، احتملوا ثرثرتي إن شئتم ، ودعوني أبدأ من بدايتي أنا والتي، ليس بمحض الصدفة طبعاً ، هي ذات النقطة التي دقّت فيها كل نواقيس الخطر في رؤوس من استشعروا أن قناة الميادين جاءت لتجب ما قبلها وتنسخ بهتان إعلام الرأي الأوحد وتفنّد كذب وافتراء وافتعال آيات شيطانية دأبت قوى المال السياسي على محاولة فرضها كحقائق لا تحريف لها ولا حرف لكلمها الذي لا يعدو كونه رجع أراجيف الرأسمالية العالمية والاستعمار عن بعد وتلاشي الكل في واحد يريدون له أن يكون اسرائيل.
لنوسّع الدائرة أكثر فنكون كمن يلقي حجراً في بركة ماء راكدة ، من قاعة المهرجان إلى هافانا العاصمة إلى كوبا الدولة ومن ثم إلى كل شبر في أميركا اللاتينية القارة ، ولا ترمونني بتهمة التطويل وإلا ستكونون كمن يحيّره سر ضخامة شجرة مترامية الأطراف وارفة الظلال ويأبى أن يبدأ البحث من التربة والبذرة فالغرسة .. ومع ذلك سأختصر الطريق وأجيب مباشرة على ما أخاله يعربد في رؤوسكم من أسئلة ، نعم ، كوبا صغيرة الحجم محدودة السكان هشّة الاقتصاد قليلة التأثير في مجريات أمور هذا العالم ، وهو ما قد ينسحب على أميركا اللاتينية كلها بشكل أو بآخر وبنسب متفاوتة ، لكنها رمز وشوكة في حلق نظام الطرف الآخر المعادي أو على الأقل المخالف لنهج الميادين وعلى رأسهم أميركا وإسرائيل وذوو قربى ممن كان ظلمهم أشد غضاضة.
... ولكي أوجز فأنجز، ولكن بعرض واضح ومفهوم ، أذكّركم في مطلع الستينات من القرن الماضي ، كوبا التي اعتلى سدة الحكم فيها فيدل كاسترو ، الماركسي اللينيني ، وحزبه الأوحد الشيوعي طبعاً ، وبضآلة حجمها وقلة إمكاناتها إلى ما يشبه العدم ، تتحدّى العملاق الأمريكي الذي لا يفصله عنها سوى مرمى حجر من ماء البحر، وتفتح على عتبة بابه مدرسة لنشر الفكر المختلف وترويج الرأي الآخر ..
يجنّ جنون الأميركيين سادة النظام الرأسمالي وهم يرون النظام الاشتراكي القائم على الفكر الشيوعي يقف على أعتابهم متأهباً لغزوهم في عقر دارهم، غزو فكري ثقافي فقط وليس عسكرياً بالطبع..
لاحظوا هنا واحفظوا هذا جيداً ، أميركا بكل عظمتها وقوتها قد أثار فزعها إلى حد الجنون الفكر فقط والرأي الآخر فقط لا غير ، وفي زمن الرؤساء العظام عند الأميريكين ، أيزنهاور ومن بعده جون كيندي حيث لم يكن هناك شك في المقدرة على اتخاذ القرار الصحيح ، تقرّر أميركا تصفية كاسترو والإجهاز على الفكر المختلف في كوبا بغزوها ..غير أن كل المحاولات قد فشلت بدءاً بعملية خليج الخنازير عام 1961 وحتى يومنا هذا حيث رضخت أميركا للأمر الواقع وبدأت في تطبيع علاقتها مع كوبا كاسترو.
أذعنت الولايات المتحدة لضرورات حفظ التوازن العالمي في خضم حربها الباردة مع القطب الآخر الاتحاد السوفياتي ، وغضّت البصر عن كوبا ( ولا عين تشوف ولا قلب يحزن ،) وانطلق فيدل كاسترو يعزز فكره المختلف ورأيه الآخر داخلياً ويسعى إلى تشكيل تحالفات ومعسكرات تقوّض أحادية الفكر والرأي والتحالف ، دول أميركا اللاتينية كلها شبّت عن الطوق الأميركي وتمرّدت على هيمنة الولايات المتحدة ، أحرار العالم وقادة القوى الثورية والفكر الاستقلالي الرافض للاستعمار والامبريالية المتمثلة في أميركا والغرب القديم أخذوا في التقارب والتكاتف ومن ثم أوجدوا شكلاً رسمياً واضحاً لتحالفهم يقوم على أساس المبادئ العشرة لمؤتمر باندونج عام 1955 فكانت حركة دول عدم الانحياز ولمعت اسماء عمالقة حفظها التاريخ جيداً ، جواهر لال نهرو ( الهند ) احمد سوكارنو ( اندونيسا ) جوزيف بروز تيتو ( يوغسلافيا ) كوامي نكروما ( غانا ) وأيضاً فيدل كاسترو ، و... جمال عبد الناصر مصر ، واغفروا لي وضع اسم عبد الناصر في آخر القائمة مع أنه قد كان على رأسها وله صدر المكان في حركة عدم الانحياز ، فأنا قد عمدت إلى ذلك كون عبد الناصر هو بيت القصيد ..الفكر المختلف والرأي الآخر لبّ القضية وجوهر النزاع مع أرباب فكر الرأسمالية المستبدة المستكينة لمنطق القوة الأميركية الإسرائيلية ..
عبد الناصر قفز بالقضية من كوبا وأميركا اللاتينية إلى المنطقة العربية ، وقد أدرك أن التحرّر لا يأتي بمجرد طرده للجيوش المستعمرة المحتلة من أرضه وباقي الأراضي العربية فحسب، ولكن بتغيير النهج والإحلال الفكري وتعزيز قدرة الرأي الآخر على اقتلاع أوهام ثوابت وحيد القرن أو وحيد الرأي.. ومع تبني قضية فلسطين بكل تأكيد ، اتجه عبد الناصر إلى دعم ثورة الجزائر مادياً ومعنوياً وبالتسليح أيضاً من دون التدخل العسكري المباشر ، ثم كانت ثورة اليمن في بواكير الستينات على بؤرة الرجعية والتخلّف العربي فطوّر عبد الناصر دعمه المادي والمعنوي إلى التدخل العسكري المباشر .
تطورات حكاية العرب و( العرب ) ، ورواية العرب وأميركا وإسرائيل ، والديكتاتورية والديمقراطية والربيع والخريف وحرب البسوس في ثوبها الجديد لا يُخفى عليكم ولستم بحاجة إلى من يذكّركم بها وهي جزء من التاريخ الحاضر والواقع الذي نعيشه الآن .. ثم ماذا !!
أنا قد أطلت الطريق ليكون الطريق أقصر ، كيف ؟ بعد كل هذه المقدمة من التربة والبذرة فالغرسة ، يصبح الإيجاز ممكناً والاختصار مفهوماً بلا أدنى شك أو تشكيك .. إنها ( ليست رمانة ولكن قلوب مليانة ) .. حكاية المال السياسي والفكر المُبتَدَع والمُكرّس لخدمة مصالح فريق بعينه ، وخزعبلات الرأي وحيد المفهوم ومتوحّد المصدر والمنشأ ، وأوحد الهدف والغاية والسبيل .. وحكاية حق حرية الرأي والتعبير وضمان كسر كل قيود الصحافة والإعلام لكشف المستور وتسكين الحقيقة في بؤرة الضوء وعين المشهد .. حكاية الرجعية العربية عندما تستيقظ على عاصفة تفتح أذهان الشعوب وتمدّد قدرتها على إدراك حقيقة مجريات أمورها، تهزّ عروشها وتزلزل كياناتها الجوفاء العجفاء التي نخرها السوس .. آخر الكلام وفصل الخطاب أن قوى المال السياسي قد أدركت أن قناة الميادين ليست بوق دعاية لمن يملكها، وأيقنت أنها تختلف شكلاً وموضوعاً عن أبواقهم الإعلامية والتي يحرّكونها بنظام التحكم من على بعد أو عن قرب ، لا فرق، فتفضح ما يريدونها أن تفضح، وتستر من عيوبهم وآفاتهم ما تستر .. وأشهد أن ما أربك حساباتهم ليس فقط ريادة الميادين في الترويج للقضية العربية عموماً وقضية فلسطين على وجه الخصوص ، خارج حدود العرب ، وهو ما يستطيعون فعله ولا يفعلون ، لكنها عقدة كوبا وأميركا اللاتينية قد فجّرت حساسيتهم تجاه أي تحرك فعّال أو استقطاب يُعيد إلى أذهانهم ما يعتبرونه مأساة صمود حرية الرأي والفكر المختلف أمام عنجهية واستكبار، والعقلية العفنة لوحيد الفكر وأوحد الرأي في النظام العالمي الجديد ..
وأشهد وأشهدكم معي أن قوى المال السياسي ومخلّفات الرجعية العربية والتي بلغ بها الفزع الأكبر من صدق الواقع كما هو ما بلغ، قد استقر في يقينها أن الميادين ليست مجرد قناة إعلام ولكن هي فكرة ورأي ورافعة لعقيدة الاختلاف من دون خلاف .. والفكرة والرأي والعقيدة لا تحجبها تكنولوجيا ولا يشتري فيها ويبيع كل ما في الدنيا من مال سياسي .
ومن غرفة صغيرة مظلمة، ستخرج سيدة كوبية تضمني إلى صدرها بحنو أم أو عطف أخت وأُمعن النظر فلا أرى غير قناة الميادين، وأصيخ السمع فلا أسمع إلاّ اسم فلسطين .