مستقبل أوروبا والتحديات الديموغرافية: الجدليات والإشكاليات
في حال تمت إضافة تداعيات إشكاليات الهجرة، يصبح الإطار النظري أكثر تعقيداً وانفتاحاً على مجموعة متنوعة من علامات الاستفهام وعدم اليقين الجوهري المرتبطة بنسق الديناميكية الديموغرافية.
تعتبر التحديات المرتبطة بالتطورات الديموغرافية وتدفقات الهجرة من بين أهم الاتجاهات التي ستحدّد مستقبل أوروبا. وسيكون لذلك تداعيات ستؤدي إلى نظام متكامل من التغيرات الجذرية على مستوى هُوية المجتمعات واستقرار الدول، والتي ستؤدي إلى إعادة تشكيل موازين القوى في القارة الأوروبية.
وانطلاقاً من ذلك، بات من المستحيل فهم الواقع الحالي وقراءة التعقيدات المستقبلية بعيداً من المسألة الديموغرافية، إذ تبدو العديد من التقديرات الديموغرافية الأوروبية خطرة ومثيرة للمخاوف الاستراتيجية. وبناءً على ذلك، واستناداً إلى كيفيَّة تأثير تلك التحديات وتداخلها مع الأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية والقانونية والثقافية والبيئية، يمكن طرح العديد من الجدليات والإشكاليات:
جدليّة ضبابيّة التنبؤات الديموغرافية وغياب السيناريوهات الثقافية والسياسية
تطرح الدراسات الديموغرافية عدم اليقين إلى حد الارتباك، ما يثير العديد من الإشكاليات حول الحقائق الديموغرافية غير المدعومة بأدلة علمية مؤكدة، نظراً إلى أن معظم التنبؤات والنظريات حول السلوك الديموغرافي تبدو ضبابية وغير قادرة على تقديم تفسيرات مقنعة.
وفي حال تمت إضافة تداعيات إشكاليات الهجرة، يصبح الإطار النظري أكثر تعقيداً وانفتاحاً على مجموعة متنوعة من علامات الاستفهام وعدم اليقين الجوهري المرتبطة بنسق الديناميكية الديموغرافية. كما أنَّ إمكانية التغيير السريع والجذري، على الرغم من أن الشكل الذي يتخذه غير معروف، يطرح إشكاليات أساسية حول فعالية التخطيط.
وبالتالي، يوجد الكثير من الشكوك حول ما إذا كان هناك تحليل ديموغرافي أوروبي مستدام وموثوق فيه، إذ إنَّ العديد من الإحصائيات الديموغرافية المستقبلية تستند إلى توقعات إيجابية غير مؤكدة ومشكوك فيها، ناهيك بعلامات الاستفهام الكبيرة حول غياب الدراسات الرصينة المبنية على توقع سيناريوهات ديموغرافية سلبية (سواء كانت ثقافية أو سياسية) ووضع حلول لمعالجتها.
جدليَّة دولة الهجرة الناشئة والأمن غير الكلاسيكيّ
تأثير الهجرة في المجتمعات الأوروبية معقد للغاية؛ فمنذُ العام 2015، شكلت الأزمة المتعلقة بمسألة الهجرة في أوروبا تحولاً غير مسبوق على مستوى التكامل الأوروبي، فالهجرة بأبعادها الثقافية والأمنية والسياسية والبيئية ينبغي دراستها من خلال منهجية استباقية وديناميكية. وفي هذا الإطار، هناك العديد من الإشكاليات التي ينبغي للمجتمعات الأوروبية معالجتها:
- هل ينبغي اعتبار الهجرة مسألة تتعلق بالأمن الثقافي أم أنها تخضع للقواعد الاقتصادية؟ وهل يمثل تدفق المهاجرين تهديداً لمبادئ المواطنة في أوروبا؟
- إذا كان الخلل الديموغرافي المتعلّق بمعضلة الشيخوخة لا يمكن مواجهته إلا برفع معدل الهجرة، فهل الأوروبيون على استعداد لتحمّل العواقب الثقافية لمثل هذا الخيار؟
- في حالة تأكيد مصداقية النظريات والأرقام التي تنبئ بتراجع معدلات الخصوبة في الدول النامية، ما الذي يمكن أن تجده الدول الأوروبية كحلول، إذا كانت تعتمد في الدرجة الأولى على زيادة نسبة المهاجرين من الدول النامية؟
- هل هناك استراتيجية لمواجهة تكرار أزمة الهجرة في العام 2015؟ مثلاً، كيف يمكن لإسبانيا أن تتعامل مع إشكاليات الهجرة إذا قرر المغرب فتح حدوده مع إسبانيا للمهاجرين، نتيجة نزاع سياسي بين البلدين أو نتيجة وجود عدم استقرار داخله أو بسبب الظروف المناخية؟
- ما المعايير المناسبة للتعامل مع إشكاليات اللجوء البيئي المستقبلي؟ وهل يشكل هذا النوع الجديد من اللجوء تهديداً للأمن القومي الأوروبي؟
جدلية العلاقة بين الخيارات السياسية والاقتصادية
العديد من التهديدات الديموغرافية في أوروبا لا يمكن فهمها من دون نوع جديد من التحليل السياسي. هذا المنطق يفتح الباب على مصراعيه لمناقشة العلاقة الجدلية بين الخيارات السياسية والمصالح الاقتصادية؛ فعندما تتداخل المصالح بين السلطة السياسية والطبقة الرأسمالية والمؤسسات البيروقراطية ومؤسسات البحث الأكاديمي، يصبح من الصعوبة بمكان ما إيجاد خيارات خارج النسق الاقتصادي المغلق، والذي يرتبط بجدلية العلاقة بين السلطة ورأس المال في أوروبا، إذ إنَّ تعقيدات الاحتكاك بين السياسة والاقتصاد باتت جزءاً أساسياً من فهم المستقبل الأوروبي. لذلك، يجب طرح الإشكاليات التالية:
- أين تبدأ حدود المصالح الاقتصادية؟ وأين تنتهي؟ وهل الرؤية الاقتصادية وحدها قادرة على معالجة التحديات الديموغرافية أو أنها من أحد أهم التحديات الأوروبية المستقبلية؟
- لماذا الاهتمام السياسي والأكاديمي الأوروبي المرتبط بمسألة الديموغرافيا والهجرة منصبّ على تحليلات اقتصادية أكثر من التحليلات الاستراتيجية السياسية والثقافية والأمنية؟
جدلية الأمن الديموغرافي الثقافي الأوروبي
التغيير الجوهري في البنية الديموغرافية الأوروبية يثير تساؤلات مصيرية حول إشكاليات الأمن الثقافي؛ فزيادة معدل الشيخوخة ومخاطر تدفقات الهجرة ستحدث تغييرات خطيرة تنذر بتحول المجتمعات الأوروبية إلى مجتمعات مفككة تفتقر إلى أيّ قواسم مشتركة في ما بينها.
هذا الواقع يمكن أن يؤدي إلى زيادة النزعة الانفصالية وردود الفعل الراديكالية من قبل الشعوب الأوروبية الأصلية. وهكذا يتضح أنَّ هناك حاجة ماسّة إلى البحث في المسألة الثقافية، بدلاً من الاعتماد على الخيارات الاقتصادية فقط.
باتت الثقافة عاملاً مؤثراً في تطوير الاستراتيجيات الجيوسياسية، وخصوصاً مع تنامي الهواجس القائمة على الخوف المستقبلي من أن تفقد القارة هُويّتها وأمنها الثقافي. وعلى الرغم من كل الملاحظات أو الانتقادات التي يمكن توجيهها إلى الأفكار والنظريات الثقافية المرتبطة بواقع التحولات الديموغرافية، فإنَّها ستبقى ذات أهمية استراتيجيَّة، وهي ليست مجرّد نقاش أكاديميّ بحت، لأنه لن تكون هناك أيّ دولة أوروبية بمأمن من تلك التداعيات الثقافية، ناهيك بأنه يجب عند مواجهة التحديات الديموغرافية الأخذ بعين الاعتبار أنَّها ناتجة من عوامل وصيرورات ثقافية أوسع وأشمل من مجرد قرارات سيتخذها القادة السياسيون الأوروبيون. وبناءً على ذلك، هناك الكثير من الإشكاليات التي تحوم حول كيفية إعادة خلق الثقافة والسياسة الأوروبية، ومنها:
- أين حدود الأمن الديموغرافي الثقافي الأوروبي؟ وكيف يمكن التوفيق بين الاستمرارية في تبني مبادئ اقتصاد السوق الحر، على العكس من ذلك، على المستوى السياسي ينبغي أن تكون القارة الأوروبية منغلقة ثقافياً على نفسها؟ وما مدى التنوع الذي يمكن أن تتحمله المجتمعات الأوروبية من أجل الحفاظ على تماسكها؟
- ما مدى إمكانية استغلال بعض الدول الأجنبية هذا الواقع الثقافي لتقويض الأمن القومي الأوروبي؟ وهل هناك رؤية أوروبية لكيفية مواجهة أي محاولة مستقبلية للتدخل في الشؤون الداخلية للقارة باستغلال الحقائق الناتجة من الهجرة وسياسات التعددية الثقافية؟
- هل هناك استراتيجية للحفاظ على التوازن الديموغرافي من دون اللجوء إلى التجديد الديني المحافظ الذي يُخشى أن تأتي به الديموغرافيا (البديل الاستراتيجي الأكثر أهمية)؟ وكيف يمكن التصدي للتحدي الثقافي المرتبط بنسق الحلول التكنولوجية للديموغرافيا ولخطر عدم اليقين بشأن ما إذا كان هذا النسق سيعزز أو يزيد من تآكل الأسرة أو العائلة النووية الأوروبية؟
يجب أن نأخذ في الاعتبار الأهمية الواضحة للأنساق الثقافية، كعوامل مؤثرة توفر رؤية تحليلية مختلفة، والتي غالباً ما يفوق تأثيرها الاستراتيجي المصالح الاقتصادية. لذلك، يجب النظر إلى هذه الأنساق من حيث درجة التغيير الذي تمثله، إذ لم يعد من الممكن إيجاد أي مقاربة منطقية للواقع السياسي من دون مراعاة تأثير العوامل الثقافية التي ما زالت تتجاهلها مؤسسات الاتحاد الأوروبي، والتي سيكون لها دور محوري في تحديد مستقبل أوروبا.
جدلية كيفية مواجهة الانقسامات السياسية والثقافية المرتبطة بتحديات الديموغرافيا والهجرة
يمكن الاستنتاج بشكل قاطع أن المشروع الأوروبي (منذُ بداية أزمة الهجرة العام 2015) بات يواجه مخاطر حقيقية، مع اتساع الفجوة الاجتماعية والسياسية والثقافية داخل أوروبا، ناهيك بفقدان الأحزاب السياسية التقليدية فعاليتها في مقابل زيادة نفوذ الأحزاب اليمينية والحركات المناهضة للاتحاد الأوروبي وجميع سياسات التعددية الثقافية وتشجيع الهجرة (The Eurosceptics)، إذ أصبحوا أكثر نفوذاً على مستوى الحكومات والبرلمانات الوطنية أو مؤسَّسات وبرلمان الاتحاد الأوروبيّ.
ومن أحد أحدث الأمثلة في هذا السياق هو نجاح اليمين في البرتغال بالحصول على 12% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في بداية العام 2021. وبالتالي، هذه المخاطر تثير تساؤلات حول ما إذا كانت ستؤدي إلى زيادة الانقسام أم أنَّها مجرد اضطرابات مرحلية لن تؤثر في عملية التكامل الأوروبي. وحتماً، الإجابة عن تلك التساؤلات ستبقى مرهونه بالإشكاليات التالية:
- إشكالية المواجهة المباشرة بين مؤيدي سياسات الهجرة ومعارضيها: هل ستؤدي إلى تغيير العديد من المعادلات الاستراتيجية والتوازنات السياسية داخل أوروبا في المستقبل؟
- إشكالية فقدان الاستراتيجية الثقافية: هل أوروبا بحاجة ماسة إلى تطوير استراتيجيات للتخفيف من المخاوف الثقافية، ومن أجل مواجهة حروب الأفكار التي تدور حالياً في القارة؟ وهل يملك القادة السياسيون والنخب البيروقراطية رؤية ثقافية وسياسية قادرة على التعامل مع الحركات الشعبية المناهضة لسياسات الاتحاد الأوروبي المرتبطة بالهجرة؟
في ضوء كلّ ما تقدم، لكي تكون أوروبا مستعدة قدر الإمكان لمواجهة تلك التحديات، يحتاج القادة الأوروبيون إلى التفكير على نطاق واسع في أسوأ ما يمكن أن يحدث. وبناء عليه، يمكن لهذه الجدليات والإشكاليات المطروحة أن تكون بمثابة إنذار مبكر حول التغيرات الجيوسياسية العميقة الجارية حالياً أو التي من المتوقع حدوثها مستقبلياً، إذ إنَّ اجتماع التحديات الديموغرافية مع الافتقار إلى القادة السياسيين ذوي الرؤية الاستراتيجية، يجعل الأوروبيين غير قادرين على مقاومة هذه التغيرات الشاملة.
والأخطر من ذلك، أن هذه التغيرات لم تعد قائمة على ما يفعله السكان الأوروبيون الأصليون أو ما يطمحون إليه، بل هي قائمة على ما يحدث لهم، وما يحدث هو أزمة الهوية، أو بالأحرى هو أزمة عدم وجودها.
وبناءً على ذلك، يمكن القول إنّ دراسة القضايا الديموغرافية هي المدخل الرئيسي الَّذي يمكن من خلاله إدراك الواقع الحالي لأوروبا ومصيرها في المستقبل، إذ إنَّ فهم التحديات الديموغرافية وتأثيراتها المترابطة بات محوراً مهماً للغاية يتجاوز المفاهيم الكلاسيكية، ويفتح الباب على مصراعيه للتساؤلات المرتبطة بطبيعة العلاقة بين الديموغرافيا والاقتصاد والثقافة والبيئة والأمن والسياسة.
هذا الواقع يتطلّب حتماً ابتكار رؤية أوروبية جديدة، تكون قادرة على مواجهة كل هذه الجدليات والإشكاليات. يبدو أنّ العديد من الأفكار والسياسات الحالية لم يعد تواكب تلك التطورات. وفي هذا السياق، يبدو أيضاً أنَّ التساؤلات المرتبطة بجدليات وإشكاليات قدرة الأوروبيين على إيجاد حلول لكل هذه التحديات، ستبقى غير مكتملة من دون التساؤلات المرتبطة بجدليات الإرادة الأوروبية وإشكالياتها؟