رئاسيات إيران.. لماذا توُصف الانتخابات الحالية بالمصيرية؟
المستقبل المنظور يضع إيران، كما غيرُها من الدول الصاعدة، على أعتاب مرحلة واعدة، تجعل رئيسي، في توجُّهاته السياسية والاقتصادية، عنوانَ المرحلة داخل بلاده.
ما لم تسفر نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية عن مفاجآت، فإن المرشَّح إبراهيم رئيسي يبقى الأوفر حظاً في الفوز. النهج الجديد الذي يَعِد به رئيسي يمثّل انقلاباً على النهج السابق لعهد روحاني، والذي يصفه بعض المتابعين بأنه ربط اقتصاد إيران ومستقبل ازدهاره بالمفاوضات النووية، بينما يرى رئيسي أن المحادثات مع القوى العالمية لرفع العقوبات الأميركية عن إيران لا طائل من ورائها. وهو، استناداً إلى هذا الرأي، يمثّل عنوان المرحلة في إيران، التي تنظر إلى المدى المنظور وترى تحولات لمصلحتها، هي التي أجادت، طوال السنوات والعقود الماضية، لعبةَ الصبر الاستراتيجي.
من هنا، يُنتظر أن يكون التحوّل المرتقَب في إيران عميقاً، وليس مجرد تداوُل للسلطة. المرشد الإيراني، السيد علي خامنئي، وصف الاستحقاق، الأربعاء، بالمصيري، داعياً إلى أوسع مشاركة في الاقتراع، على اعتبار أن "قوة الأدوات العسكرية والسياسية والاقتصادية لا تعادل قوة مشاركة الناس، بالنسبة إلى البلاد". كما اعتبر أن مصير البلاد، في هذه المرحلة، مرتبط بالحضور الشعبي، والاقتراع.
التشديد على أهمية المشاركة الشعبية في الاقتراع أمرٌ مفهوم في أيّ نظام سياسي، بسبب ما توفّره من شرعية وتجديد الثقة بالنظام. بعض الأنظمة السياسية جعل عملية الاقتراع خطوةً إلزامية تحت طائلة العقوبة. في الدول الثورية والاشتراكية المحاصَرة بالعقوبات والتضليل ومحاولة تأليب الفئات الشعبية ضد النظام، تغدو عملية الاقتراع أكثر أهمية. في الحالة الإيرانية، يعود الأمر أيضاً إلى مفهوم الديمقراطية الدينيَّة، في فكر الإمام الخميني، والذي أسّس للحكومة الإسلامية التي تقوم على مبدأ العدل، والتي تتبعُ الشعبَ، وتتشكّلُ بناءً على رأيه وصوته.
تاريخياً، تفاوتت نِسَب المشاركة في الانتخابات الرئاسية في إيران، منذ انتصار الثورة. لكن، في جميع الدورات، لمْ تتدنَّ نسبة المشاركة عن 50 في المئة، بينما بلغت أعلى نسبة مشاركة عندما فاز أحمدي نجاد، في الدورة العاشرة، بنسبة لامست 85 في المئة. أمّا إذا قسنا على المشاركة في الانتخابات البرلمانية العام الماضي، فيمكن أن نتوقّع في الانتخابات الراهنة مشاركةً أقل من دورات سابقة، بحيث لم تتعدَّ نسبة المشاركة العام الماضي حدود 43 في المئة، وهي أدنى نسبة مشاركة منذ بداية الثورة عام 1979 حتى الآن.
تشكّل عدة عوامل أسباباً للإحجام عن المشاركة، بينها القضايا الاقتصادية والمعيشية، وكذلك استطلاعات الرأي، التي تؤشّر على حسم مرشحين محدَّدِين للنتيجة، وأيضاً غياب مرشحين معتمَدين للتيار الإصلاحي. في هذه الحالة، يهمّ رئيسي أن تتوسَّع نسبة المشاركة، ويصبّ مزيد من الأصوات لمصلحته، الأمر الذي من شأنه أن يوفّر زخماً للخطوات والمشاريع التي ينوي الرئيس "الثوري" تنفيذها.
الأولوية الاقتصادية تبدو طاغية في برامج جميع المرشَّحِين، المنسحبين منهم والمستمرين في المنافسة، إلاّ أن الاقتصاد لا يمكن، في حال من الأحوال، فصلُه عن السياسة. لقد شكّلت السنوات الأربع المنصرمة مرحلة تكاد تكون الأصعب في مسار الجمهورية الإسلامية، بسبب الضغوط القصوى، والعقوبات التي فرضها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
في مواجهة هذه السياسة، اجترح المرشد الإيراني شعارَ "الاقتصاد المقاوم". شعار تعوّل اليوم فئاتٌ اجتماعية وازنة من الشعب الإيراني على رئيسي، باعتباره الأقدر على ترجمته وتنفيذه، وهو الآتي من رئاسة السلطة القضائية، حيث شَرَع في محاكمة مسؤولين إيرانيين كبار وقضاة، بتهمة الفساد.
رئيسي، المحافظ والمقرّب إلى المرشد خامنئي، سوف يتسلّم الرئاسة، في حال لم تحدث مفاجآت، في ظل ظروف إقليمية ودولية مغايرة تماماً عن السنوات السابقة. هي، من دون شكّ، ظروف تصبّ لمصلحة إيران، التي تراقب التحوّلات في النظام العالمي، وانحدار عصر الأحادية الأميركية، وبوادر الإخلاء التدريجي للوجود الأميركي في المنطقة، انسجاماً مع تبدّل أولويات واشنطن.
في سياق هذا المناخ، إقليمياً ودولياً، يكمن التحدّي أمام رئيسي في مدى النجاح في التحرُّر من الاعتماد على الصادرات النفطية، وترجمة شعار "الاقتصاد المقاوم" إلى واقع ملموس. توجُّه تساعد المناخات الدولية الجديدة على تحقيقه، نتيجة ما لها من انعكاسات على الداخل الإيراني، وعلى الواقعَين المعيشي والاقتصادي.
يحلّ رئيسي رئيساً لإيران مستنداً إلى شعبية سبق أن ترجمها في انتخابات عام 2017، بنيله نحو 38 في المئة من الأصوات. ويسعى الرئيس العتيد لتعزيز هذه النسبة حالياً، في وقت يُتوقع أن تشكّل فترة رئاسته انعطافاً وتحولاً نحو مستقبل تتطلع فيه القيادة الإيرانية إلى تعزيز حضورها واقتدارها، والتملّص من الابتزاز والعقوبات، عَبرَ اجتراح توجّهات جديدة داخلية وخارجية.
بذلك، يتكامل مشروع محاربة الفساد والفقر، داخلياً، والذي جعله رئيسي أحد عناوين حملته الانتخابية، مع الانفتاح الإيراني على القوى الصاعدة خارجياً، الأمر الذي يفتح المجال أمام أُفق واسع من الخِيارات الاقتصادية، بعيداً من سطوة العقوبات الأميركية.
لا يعني ذلك، في أيّ حال، أن رئيسي يمتلك عصاً سحرية، وأن حلّ مشكلات إيران الاقتصادية ممكن بهذه البساطة، بحيث تعاني البلاد مشكلةَ تضخم ساهمت فيها العقوبات، إلى حد كبير، بالتوازي مع تراجع قيمة العملة الوطنية والناتج المحلي، والذي فاقمته جائحة كورونا.
إلاّ أن المستقبل المنظور يضع إيران، كما غيرُها من الدول الصاعدة، على أعتاب مرحلة جديدة وواعدة، ليس وصول السفن الإيرانية إلى الأطلسي مؤخَّراً إلا أحدَ انعكاساتها. أوَّل غيث هذا المستقبل اتفاقيةُ التعاون الاستراتيجية، التي وقَّعتها إيران مع الصين في شهر آذار/مارس الماضي، ومدتها 25 عاماً، لتعزيز علاقتهما الطويلة الأمد، اقتصادياً وسياسياً، وقد بلغت قيمتها نحو 400 مليار دولار. اتفاقية من شأنها أن تعزّز الدور الإيراني في المنطقة، وتطوّر قدرة طهران على مواجهة الضغوط الأميركية، وتلبّي، من ناحية أُخرى، جُزءاً من طموحات الصين المتزايدة لتعزيز دورها في الشرق الأوسط، عبر البوابة الإيرانية، ذات الموقع الجغرافي الاستراتيجي على طريق الحرير.