الانتخابات الرئاسية السورية.. إعادة تشكيل شرعية الدولة وخياراتها

لا تمثِّل الانتخابات السورية اليوم تنافساً، بالمعنى الديمقراطي السائد، بين عدد من المرشحين، بقدر ما هي تشكل، بلا شكّ، محطة ضرورية لاستفتاء الشعب السوري بشأن تموضعه.

  • الانتخابات اليوم تمثّل تمسكاً بشكل الدولة وإعادة إنتاج السيادة الوطنية والشرعية الشعبية
    الانتخابات اليوم تمثّل تمسكاً بشكل الدولة وإعادة إنتاج السيادة الوطنية والشرعية الشعبية

‏تأتي انتخابات الرئاسة السورية هذا العام بعد عشرة أعوام من الحرب العبثية التي خيضت في سوريا، والتي جاءت في سياق المشروع الأميركي الهادف إلى رسم خريطة سياسية جديدة للمنطقة، قائمة ليس فقط على ميزان قوى يميل لمصلحة المحور الأميركي، بل على سحق كل ما يمتّ بصلة إلى مشروع المقاومة والتحرُّر ورفض التبعية. في الشقِّ المتعلق بسوريا، كانت تستهدف، ليس فقط إسقاط النظام أو رأسه المتمثِّل بالرئيس بشار الأسد، بل كانت تستهدف أيضاً الدولة السورية، بمؤسساتها العسكرية والسياسية والاقتصادية، كلها ضمن مخطط التدمير. وبالتالي، فإن البديل الفعلي سيكون دولة مفتَّتة وضعيفة بغضّ النظر عن الطرف الذي سيحكمها. اليوم، بعد عشر سنوات من القتال، نستطيع القول إن الحرب فشلت في تدمير الدولة السورية وخياراتها الاستراتيجية. كما أنه يُلحَظ استعادة فعالية مؤسساتها، والتي تتوَّج اليوم باستعادة المبادرة الشعبية والحياة السياسية التي أفُلت بفعل القتل والتدمير.

في هذا السياق، لا تمثِّل الانتخابات اليوم تنافساً، بالمعنى الديمقراطي السائد، بين عدد من المرشحين، بقدر ما هي تشكل، بلا شكّ، محطة ضرورية لاستفتاء الشعب السوري بشأن تموضعه تجاه المرحلة الدموية السابقة، وإعادة تشكيل شرعية الدولة السورية وخياراتها.

إذاً، لا يتمحور الحدث اليوم حول شخص الرئيس الأسد فقط، بل حول ما يمثله أيضاً من قوة، سياسياً وعسكرياً، قاتلت طوال العقد الماضي، واستطاعت استعادة زمام المبادرة السياسية، بعد سنوات من الحسم العسكري.

قد يمثّل العقد المنصرم بالنسبة إلى الأجيال المتقدمة في العمر مرحلةً ما من مراحل حياتهم، ولا شك في أنها كانت مؤلمة ومدمِّرة لما تم بناؤه قبل الحرب، لكن بالنسبة إلى الجيل الجديد، أي جيل الشباب، فإن الحرب استحوذت على الجزء الأكبر من أعمار أبناء هذا الجيل، وشكّلت رافعة أساسية في بناء وعيهم السياسي.

وذلك يعني أن الوعي الجماعي للشباب حُفر في أثناء هذه الحرب، وبالتالي فإن خياراته ومعاني وجوده ونظرته الى نفسه والعالم، وتشخيصه للعدوّ والصديق، باتت أكثر وضوحاً. 

إن تجربة الحرب السورية برهنت للشعب نفسه أن الديمقراطية في منطقتنا، المستهدَفة من جانب مشاريع التقسيم الأميركية، يجب أن تتمحور حول خيارات سيادية واحدة، تحدِّد المصلحة القومية، وتعكس طبيعة التنوّع القائم، مجتمعياً وثقافياً، لكن شرط ألاّ تضرب الاستقرار الداخلي، وعناصر القوة المتمثِّلة بمؤسسات الدولة. إن الصراع الذي قامت عليه الحرب وشعارات الحرية والديمقراطية، كان، بلا شكّ، ناتجاً من سوء فهم لطبيعة الصراع، بحيث انسلخ عن واقع الهيمنة المفروضة علينا، وذهب إلى إلغاء كل شيء، وإعادة بناء موازين القوى بالقوة العسكرية.

إن شعار تغيير النظام، والذي طرأ على الخطاب التغييري بعد "الربيع العربي"، لم يكن يعني تغيير الأشخاص، بل تغيير شكل الدول ونظرتها إلى نفسها وإلى العدو، ويعني مزيداً من نكران الهوية وفقدان الاقتدار والقوة، ومزيداً من الاقتتال الداخلي الإلغائي.

لسنا في وارد تقييم سلوك النظام، فهذا شأن المواطنين السوريين، لكن تعنينا المحافظة على تماسك الدولة (أياً كان شكلها وسلوكها)، وخصوصاً أنها تملك جيشاً مستقلاً ودوراً إقيليمياً يحفظ الاستفرار ومصالح الشعب، بالإضافة الى مؤسسات مستقرة واقتصاد منتج، يجب أن تكون كلها فوق كل حسابات الأشخاص والفئات.

الانتخابات اليوم تمثّل تمسكاً بشكل الدولة وإعادة إنتاج السيادة الوطنية والشرعية الشعبية، من خلال إشراك العنصر الشبابي الذي عانى ويلات الحرب في مخاض العملية السياسية. وإن تمتين هذا الجانب الشعبي يقوّي صورة الدولة ويعزّز تماسكها الداخلي، وهو ما يعيد الأمل في إعادتها إلى موقعها الطبيعي في الإقليم. فبالتوازي مع استعادة سوريا علاقتَها بالمحيط العربي بفعل صمودها، تعيد الانتخابات تعريف الديمقراطية بحسب ما يلائم مجتمعاتنا، أي بتأكيدها التمسكَ بالخيارات الاستراتيجية والوعي السياسي التي صقلتها الحروب، مع التشديد على ضرورة إدخال العامل الاقتصادي الذي طفا على سطح الأولويات بفعل طبيعة الصراع الحالي، وتمظهره عبر حصار دولنا وعزلها، بعضها عن بعض. والخيار اليوم هو تثمير الانتصار العسكري مع ما يحمله من إعادة السيطرة على خطوط الإمداد والاتصال بين دول محور المقاومة، وخصوصاً سوريا، والتشبيك الاقتصادي بين دول المنطقة.

نحن في مرحلة حرب دائمة مع "إسرائيل". والبقاء في جهوزية يعني المحافظة على استقرارنا الداخلي، وخصوصاً موقع سوريا الواصل بين دول محور المقاومة، والحاضن لحركاته المسلحة.