واشنطن تسعى لتسعير الأوضاع في سوريا وتحاول حشر روسيا في الزاوية
الولايات المتحدة لا تؤتمن، ولن يستقرّ العالم إلا بإضعافها، لأنها لن تهدأ ولن تستكين ما دامت تتمتّع بالقوة والقدرة على فعل كل شيء.
تسعى الولايات المتحدة الأميركيّة في الوقت الحالي، وبخطى متسارعة بعيدة عن الأنظار، لتأزيم الأوضاع في سوريا، وخصوصاً ميدانياً، وضرب الاستحقاق الدستوري الرئاسي المرتقب، ووضع حلفائها في خانة الـ"يك"، وعلى رأسهم روسيا، إذ تتّجه إلى إعادة نشر ودعم جيوشها البديلة، المتمثلة بالمجموعات الإرهابية المسلحة، التي تحاول منذ بداية الحرب على سوريا أن تغيّر أسماءها من حين إلى آخر، وتلبسها لبوس المعارضات المعتدلة، كي تقحمها في عملية الحلّ السياسيّ الذي بات لا مفرّ منه خلال الفترة القادمة، لأن سوريا، وبدعم من حلفائها، استطاعت أن تسحق جيوش الولايات المتحدة البديلة ومعظم المجموعات الإرهابيّة المسلّحة المدعومة من أطراف مختلفة، وأن تدحرها بشكل كبير.
تعمل إدارة الرئيس بايدن في الأيام الحالية على تحريك الأوضاع الميدانية العسكرية. وقد وضعت واشنطن مجموعة من الخطط لإعادة تأهيل مجموعات من فصائل المعارضة في مناطق مختلفة من البلاد وتجهيزها وتدريبها، وهي تهدف من خلال ذلك إلى فرض سيناريوهات تجبر الدولة السورية على تقديم تنازلات، وضمان دفع الحل السياسي في سوريا بشكل يحقّق أهدافها ويخدم مصالحها، متخفّية بذلك خلف ستار قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254.
وقد وردت معلومات، نقلاً عن مصادر في الولايات المتحدة وبعض الأطراف المعنية بملفات الشرق الأوسط، ولحقتها تسريبات إعلامية شبه مبهمة، تقول إن الإدارة الأميركية الجديدة تعمل على إعادة تفعيل قنوات الاتصال مع هذه المجموعات، لإيجاد سبل وأدوات جديدة لدعم نشاطها، وخصوصاً في مناطق الجنوب السوري.
ويبدو أنَّ واشنطن، وفي خضمّ الأوضاع الإقليمية والدولية الحالية والمواقف تجاه ما يجري في سوريا والمنطقة ككلّ، بما فيها الأحداث في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تحاول فرض واقع جديد تتحكَّم من خلاله بالواقع الميداني السوري على الأرض، ليتمّ على أساس ذلك التمهيد لفرض الحل السياسي الذي ترى أنه يتماشى مع استراتيجيتها وعقيدتها التي لا تتغير، من خلال تبديل أساليبها وأدواتها وتعديلها وتطويرها وفق الظروف الناشئة.
وهناك معلومات شبه مؤكّدة تشير إلى أن الولايات المتحدة، عبر قوات التحالف التي تعمل في قاعدة التنف في المثلث الحدودي السوري الأردني العراقي، وجهت أوامر إلى ما يُسمى "مغاوير الثورة"، تبلغهم فيها بالاستعداد لمرحلة جديدة من التدريب والتأهيل لرفع قدراتهم القتالية، تحضيراً لمرحلة المواجهات القادمة التي يتم الإعداد لها حالياً وفق خطة "أ" و"ب"، ووفق الطرق السابقة نفسها في تحديد الأساسيات والأولويات التي تعمل على أساسها هذه المجموعات بتوجيه مباشر من قوات التحالف، وعلى رأسها الولايات المتّحدة.
خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، كان دور الولايات المتحدة في سوريا غامض المعالم. وقد ضاع كنهه بين إرث الوعود التي أطلقها الرئيس السابق دونالد ترامب ووعود الرئيس بايدن وتصريحات المسؤولين السياسيين والعسكريين في الإدارة الجديدة حول التعاطي مع الملف السوري، إذ كانت هذه الفترة فترة "مكانك راوح"، إن لم نقل فترة جمود ميداني جزئي، انطلاقاً من عدم حدوث أي تغيرات في خرائط السيطرة، سواء في القوات الحكومية السورية أو المجموعات الإرهابية المسلحة، على اختلاف أنواعها ومسمياتها وأماكن انتشارها، تتخللها تطورات ميدانية، وخصوصاً في منطقة الجزيرة وبعض مناطق الشمال السوري باتجاه الحدود مع تركيا، كتلك التي قامت بها ميليشيات "قسد" في الجزيرة السورية، ومحاولات إخلاء بعض الأحياء التي تسيطر عليها قوات الجيش السوري والدفاع الوطني، كقضية حيّ "طي" التي انتهت بهدنة برعاية روسية، وقبلها في مناطق الرقة والحسكة ودير الزور، وكذلك أحداث قصف مصافي النفط المسروق في أطراف حلب وغيرها، لكنها لم تحدث أي تغير في الأوضاع الميدانية أو في مناطق التموضع.
ويمكن أن نضيف إلى هذه الأحداث عمليات الاعتداء المنظّم والمكثّف على مواقع الجيش السوري، والقيام بعمليّات اغتيال عناصر وضباط من الجيش العربي السوري وبعض الوجهاء والقائمين على ملف المصالحات الوطنية في الجنوب السوري، وتحديداً في محافظة درعا، وإثارة القلاقل في محافظة السويداء، ترافقها اعتداءات إسرائيلية متواترة ومنسقة معهم، فكانت الأحداث في درعا، وفق خطة مسبقة ومدروسة بتحديد الشخصيات المستهدفة وتوقيت تنفيذ هذه العمليات ومواعيدها ومكانها، بحيث تعجز الجهات المختصة عن اللحاق بوتيرة هذه العمليات ومنع وقوعها، كي تقع في إحراج أمام الرأي العام، ولكي يقع الروسي الضامن للمصالحات في مصيدة المخططين لهذه العمليات، ويترك لوسائل الإعلام اتهام روسيا بالتسبب بهذه الأحداث، وعدم اتخاذ أي إجراء مسبق لردعها أو منعها، وهو جزء مهم من المخطّط الذي تحاول الولايات المتحدة تحقيق هدفها من خلاله، والمتمثل بمضايقة روسيا في سوريا، كما اعترف السفير الأميركي السابق روبيرت فورت مرات عدة بشكل غير مباشر، قبل أن يتحول إلى إعطاء المواعظ لبلده بخصوص التعامل مع الملف السوري، فضلاً عن غيره من المسؤولين الأميركيين. وقد قال الممثل الخاص لشؤون سوريا والمبعوث الخاص للتحالف في سوريا، جيمس جيفري، إن مهمته الأساسية (فورت) تكمن في إغراق روسيا في المستنقع السوري.
ما يثبت ذلك هو أنَّ الرئيس الأميركي جو بايدن قال في شهر آذار/مارس الماضي إنه يعد ويتعهَّد بوضع حد لروسيا وتدخلاتها في شؤون الدول الأخرى في العالم، بما فيها قضية اتهامها بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وصولاً إلى قضية تسميم المعارض الروسي الشهير ألكسي نافالني، وقضايا الأمن السيبراني والاعتداءات الإلكترونية التي تقوم بها ضد نفسها، على حد زعمه.
إذاً، ما زالت الولايات المتحدة الأميركية على سابق عهدها. لا تتغيّر سياستها بتغير الرؤساء والقيادات السياسية والعسكرية، إنما تتبع منهجاً تنفّذه كل هذه الشخصيات، بدءاً من الرئيس الذي يشغل رأس الهرم، كائناً من كان، وصولاً إلى أصغر موظف في القطاعات العسكرية والسياسية وباقي القطاعات المتصلة.
الولايات المتحدة لا تؤتمن، ولن يستقرّ العالم إلا بإضعافها، لأنها لن تهدأ ولن تستكين ما دامت تتمتّع بالقوة والقدرة على فعل كل شيء، وعلى خلق المشاكل والحروب، لحلّها واستثمارها في كلّ أنحاء العالم، لتبقى السيد الوحيد، وهي ترفض كلّ المتغيّرات التي حصلت بسبب أفعالها في العالم، الذي انتهى فيه عصر القطب الواحد بعد عودة روسيا إلى دورها الفاعل في الساحة الدولية كمنافس قوي في كل المجالات، وأولها المجالات العسكرية، التي أدت تطوّراتها الأخيرة التي أعلنها الرئيس بوتين تباعاً إلى أن تقضّ مضجع الولايات المتحدة، وتجعلها تفكر ملياً في حل مع روسيا وباقي الدول الصاعدة الأخرى، كالصين.
ما زالت واشنطن تعمل انطلاقاً من أن مصالحها هي الأساس، وأن أميركا تأتي أولاً، ووفق مبدأ "إن وجدت القوة، فلا داعي للعقل"، وهو ما لن تسمح باستمراره روسيا والدول والأحلاف الإقليمية والعالمية الصاعدة التي ضاقت ذرعاً بالولايات المتحدة وبأعمالها التدميريّة في العالم.