عشرية النار ليست سوى امتداد لتاريخ من التآمر على سوريا

شكل الموقع الجيوسياسي والاستراتيجي السوري دافعاً للولايات المتحدة لتكون سوريا في عين الاستهداف الأميركي. تتالت الانقلابات العسكرية، وكان غالبيتها بدعم وتدبير أميركي.

  • كانت محاولات ابتزاز الموقف السوري حاضرة دائماً
    كانت محاولات ابتزاز الموقف السوري حاضرة دائماً

لم تأتِ "عشرية النار" التي شهدتها سوريا من العدم، بل شكلت امتداداً لتاريخ من التآمر، بدأ مع استقلال سوريا في العام 1946، وما زال مستمراً. بدأت التدخلات الأميركية في سوريا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة. حينذاك، كانت الشهية الاستعمارية الأميركية قد فُتحت بعد الانتصار الذي حققته الولايات المتحدة الأميركية في تلك الحرب بتوسيع مدى نفوذها وتدخلها في سياسات الدول.

لم تكن سوريا استثناء على هذا التدخل، ولا سيما بعد أن أبلى الجيش العربي السوري بلاء حسناً في الحرب العربية العام 1948، إثر إعلان "دولة إسرائيل". تمثل شكل التدخل الأول بترتيب أول انقلاب عسكري شهدته سوريا بقيادة الضابط حسني الزعيم.كان الهدف آنذاك تمرير أنابيب النفط (التابلاين) ضمن الأراضي السورية باتجاه البحر الأبيض المتوسط وباتجاه لبنان، وكان الهدف الآخر بدء محادثات بين زعيم الانقلاب حسني الزعيم والكيان الإسرائيلي. وقد جرت المحادثات يومها في مدينة بلودان.

شكل الموقع الجيوسياسي والاستراتيجي السوري دافعاً للولايات المتحدة لتكون سوريا في عين الاستهداف الأميركي. تتالت بعدها الانقلابات العسكرية، وكان غالبيتها بدعم وتدبير أميركي. وقد تضاعف هذا الاهتمام عندما وقفت سوريا إلى جانب عبد الناصر إبان العدوان الثلاثي، عندما صدحت إذاعة دمشق: من دمشق هنا القاهرة. 

في العام 1957، اكتشف مدير المخابرات السورية المقدم عبد الحميد السراج مخططاً انقلابياً بقيادة السفير الأميركي في دمشق، فقام بطرد السفير الأميركي. كان طرد سفير أميركي من دولة عربية يشكل سابقة هي الأولى من نوعها. وفي العام 1958، مع قيام الوحدة المصرية السورية، ازداد النشاط الأميركي لإفشال الوحدة عبر أداته الخليجية "السعودية"، التي قدمت عرضاً مالياً لعبد الحميد السراج لإسقاط طائرة عبد الناصر لدى إقلاعها من مطار دمشق. وقد قام السراج بتسليم الشيك السعودي لعبد الناصر الذي بنى به برج القاهرة.

مع حرب الأيام الستة في العام 67، والتي أدت إلى احتلال الجولان السوري، إضافة إلى أراضٍ عربية أخرى، منها سيناء والضفة الغربية وغزة، حيث باتت فلسطين التاريخية كلها تحت الاحتلال الإسرائيلي، بدأت الضغوط الأميركية تشتد على سوريا. كان الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز قد أرسل رسالة في العام 1966 إلى الرئيس الأميركي ليندون جونسون يحرضه فيها على التخلص من عبد الناصر وقيام "إسرائيل" باحتلال أراضٍ عربية، بهدف إسقاط عبد الناصر في مصر وحزب البعث في سوريا.

مع مجيء الرئيس حافظ الأسد إلى الحكم، استأنفت الولايات المتحدة محاولاتها لاحتواء سوريا. وإثر حرب تشرين التحريرية في العام 1973، قامت الولايات المتحدة بواسطة وزير خارجيتها هنري كيسنجر بترتيب عملية فصل القوات في الجولان، واستكملت الخطوات الأميركية بزيارة قام بها الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى دمشق، من دون أن ينجح في تليين الموقف السوري الذي أصر على أن يحل القضية الفلسطينية قبل الجولان. 

كانت محاولات ابتزاز الموقف السوري حاضرة دائماً. جرى تفجير الحرب الأهلية في لبنان، الخاصرة الرخوة لسوريا، فاضطرت الأخيرة على إثرها للدخول إلى لبنان لوقف الحرب الأهلية ومنع التقسيم.

في العام 1977، شكلت خطوة السادات بالذهاب إلى القدس القشة التي قصمت ظهر البعير. وقد أدى خروج مصر من دائرة الصراع العربي الإسرائيلي إلى اختلال في التوازن الاستراتيجي مع "إسرائيل"، وجعل سوريا أكثر عرضة للضغوطات، رغم محاولات الرئيس الأسد إعادة التوازن الاستراتيجي عن طريق دعم المقاومات من جهة، وتطوير القدرات الكيماوية لمواجهة السلاح النووي الإسرائيلي من جهة أخرى.

خضعت سوريا لسلسلة من الضغوط والابتزازات، فكان الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1978، ومن ثم اجتياح آخر في العام 1982 وصل إلى بيروت، وسلسلة تحركات داخلية قام بها الإخوان المسلمون. كل ذلك كان يحصل برعاية أميركية وبموافقة منها. 

اعتبر انهيار الاتحاد السوفياتي الذي لطالما شكل مظلة لسوريا متغيراً كبيراً اضطر معه الرئيس الأسد إلى ممارسة أعلى مستوى من البراغماتية السياسية مع الحفاظ على الثوابت. كانت التطورات التي تشهدها المنطقة ضاغطة جداً على سوريا (الحرب العراقية – الإيرانية والحرب على الكويت)، واضطر معها الرئيس السوري إلى السير بين النقاط لاستنقاذ البلاد من تداعيات هذه المتغيرات، رغم ما شكله ذلك من ضغوط. 

عندما زار الرئيس الأميركي بيل كلينتون، دمشق منتصف تسعينيات القرن الماضي، وعجز عن احتواء الموقف السوري، أشار الرئيس الأسد إلى أحد الموظفين بتقديم الهدية إلى الرئيس الأميركي. كانت الهدية عبارة عن علبة خشبية مرصعة بالصدف أعجبت الرئيس الأميركي كثيراً. وعندما فتحها، وجد فيها كمية من التراب، فقال للرئيس الأسد: أتهديني تراباً؟ فما كان من الرئيس الأسد إلا أن أوضح قائلاً: أردت إهداءك مما يعد أعز شيء على قلوب الشعب السوري، فلم أجد أعز من تراب سوريا لأهديك حفنة منه. تقبل الرئيس الأميركي الهدية، وأعجب بجواب الرئيس الأسد، وقال: سأحتفظ بها على مكتبي. كان ذلك رسالة شديدة الوضوح من الرئيس الأسد حول مدى التمسك بالتراب السوري وعدم المساومة عليه.

 قامت "إسرائيل" خلال العامين 1993 و1996 بعدوانين على لبنان بهدف ضرب المقاومة، وكان للرئيس الأسد دور رئيسي في تحقيق التوازن مع العدو، عبر دعم المقاومة وتحقيق تفاهم نيسان الذي حمى القرى الجنوبية وحول العدوان من ضغط إلى فرصة.

في العام 1996، تكرر اللقاء بين الرئيس السوري والرئيس الأميركي بيل كلينتون في جنيف، والذي لم يستمر سوى بضع دقائق، بسبب رفض الرئيس السوري التنازل عن بضعة أمتار توصله إلى ضفاف بحيرة طبريا.
في العام 2000، وقع حدثان مزلزلان، الأول كان تحرير الجنوب اللبناني والبقاع الغربي، مع ما يحمله ذلك من دلالات استراتيجية، وهي المرة الأولى في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي التي يضطر العدو فيها للخروج بالقوة من أرض احتلها من دون قيد أو شرط.

الحدث الثاني كان وفاة الرئيس حافظ الأسد، وما خلفه ذلك على المسارات السياسية في المنطقة ومعادلاتها. كان تسلم الرئيس بشار الأسد الحكم بالنسبة إلى الغرب فرصة لمحاولة احتواء سوريا، استناداً إلى أنه كان شاباً يافعاً عاش في الغرب، وربما يكون قد تشبّع بثقافته، ويعتبر قليل الخبرة السياسية، في نظرهم، ما يسهل عملية الاحتواء. وقد حاول الرئيس الفرنسي جاك شيراك استباق الأحداث، ووجه دعوة إلى الرئيس الأسد قبل أن يصبح رئيساً، واستقبله استقبال الرؤساء على باب الإليزيه.

مع مجيء الرئيس جورج دبليو بوش إلى الحكم، كان الكيان الصهيوني يعاني تداعيات إخراجه بالقوة من الأراضي اللبنانية، وما يعكسه ذلك من دلالات استراتيجية. ترافق ذلك مع ارتفاع منسوب الرغبة الأميركية في السيطرة على العالم والاستفادة من انهيار الاتحاد السوفياتي للسيطرة على العالم وتكريس الأحادية القطبية بشكل كامل. كان عدد من المنظرين الأميركيين في مراكز الأبحاث والدراسات المنتشرة في طول الولايات المتحدة وعرضها يدعون إلى ذلك تحت عنوان القرن الأميركي. كان بوش الأب قد سبقهم في الدعوة إلى نظام عالمي جديد. كان القصد نظاماً عالمياً جديداً بقيادة الولايات المتحدة التي كانت آنذاك تعاني نقصاً في مخزونها النفطي بلغ 17%، وكان الحديث جارياً عن اقتراب موعد نضوب نفط بحر الشمال. 

لم يكن النفط الصخري قد جرى استخراجه بعد. وقعت العين على العراق الذي يمتلك ثالث احتياط نفطي في العالم. أرسل الرئيس صدام حسين للأميركيين يبلغهم استعداده لتسليمهم النفط. كان الجواب الأميركي شرطين، إضافة إلى النفط، الأول تقسيم العراق إلى ثلاث دول، والآخر توقيع معاهدة سلام مع "إسرائيل".

كان منظرو المحافظين الجدد، أمثال برنارد لويس، وبول وولفوويتز، وريتشارد بيرل، واليوت أبرامز، ودوغلاس فيث، وفوكوياما، وهانتنغتون وآخرين، يتحدثون عن نهاية التاريخ وصراع الحضارات وضرورة إحداث تغيير في الخارطة الجيوسياسية والديموغرافية لمنطقة الشرق الأوسط على أسس طائفية وإثنية وقومية ومذهبية. وقد ابتكرت الـ"سي آي إيه" فكرة تدمير برجي مركز التجارة العالمي لتبرير التوسع الأميركي تحت عنوان محاربة الإرهاب.

كان المطلوب إسقاط منطقة الشرق الأوسط ومحاصرة كل من إيران وروسيا والصين. وقعت حادثة 11 أيلول/سبتمبر التي أعطت الرئيس الأميركي الذريعة المطلوبة للحرب تحت شعار محاربة الإرهاب، ولإقناع المواطن الأميركي، دافع الضرائب، بالذهاب إلى هذه الحرب ومحاربة الإرهاب. 

احتلت الولايات المتحدة كلاً من العراق وأفغانستان، وحضر كولن باول ليقول للأسد: أصبحنا على حدود سوريا، وهذه شروطنا. بدوره، أرسل الرئيس الفرنسي جاك شيراك ممثله الشخصي غور دي لا مونتانييه ليطلب من الأسد الذهاب إلى تل أبيب، بحسب النموذج الساداتي. ذهب الرئيس الأسد إلى طهران للتنسيق، وكان قد أدرك أن أميركا والغرب يستهدفان سوريا، واتفق مع الإيرانيين على دعم المقاومة في العراق وفلسطين ولبنان. وقد أدرك الرئيس الأسد والإيراني أن السبيل للمواجهة هو المقاومة.

مع بدء تصاعد المقاومة في العراق، قرر كل من الرئيس الأميركي والفرنسي تشديد الخناق على سوريا والعمل على إخراجها من لبنان لإضعافها، فكانت قمة النورماندي التي قررا فيها الذهاب إلى مجلس الأمن واستصدار القرار 1559 القاضي بإخراج القوات السورية من لبنان ونزع سلاح المقاومة.

 لم يكن القرار الأممي كافياً لإخراج السوريين، بسبب الانقسام السياسي الداخلي حول القرار، فكان اغتيال الحريري المخرج الذي أدى مهمة الخروج. قرر الأميركي المزج بين سياسة القوة الناعمة والقوة الخشنة حيال سوريا، فمن جهة، وجه أمير قطر وإردوغان والسعودية لاحتواء بشار الأسد عبر إغداق الاستثمارات والاتفاقيات التجارية، وكان الهدف دمج الاقتصاد السوري بالسوق الرأسمالي العالمي واقتصاد السوق.

ومن جهة أخرى، وفي الوقت نفسه، كان الرئيس الأميركي يخطط لتطبيق نظرية قطع الأذرع، ولا سيما بعد تطور دور المقاومة في العراق، والدور الذي تؤديه سوريا وحزب الله في ذلك. وقع العدوان الصهيوني في العام 2006 بطلب أميركي وتنفيذ إسرائيلي، وكان المشروع يقضي بضرب حزب الله وتطويق سوريا وتنفيذ مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، بحسب ما عبرت عنه كونداليسا رايس أمام السراي الحكومي.

انتصار حزب الله وهزيمة "إسرائيل" شكلا الضربة القاضية لمشروع "الشرق الأوسط الجديد". كانت البصمات السورية في تحقيق الانتصار شديدة الوضوح، فدفعت عاموس يادلين، رئيس مركز أبحاث الأمن القومي، إلى الإعلان في اجتماع مجلس الأمن القومي أن الصواريخ التي أطلقت على "إسرائيل" كانت صناعة سورية.

يمكن الحديث طويلاً عن تداعيات انتصار المقاومة في العام 2006 وقلبها للمعادلات، لكن ذلك ليس مجال بحثنا. كان أوباما الذي تسلم الحكم في العام 2008، وهو أكثر خبثاً من بوش، يروج لوقف الحروب والانسحاب من العراق بعد أن أثخنت القوات الأميركية بالجراح. وقد عدل في الاستراتيجية الأميركية باتجاه الحرب الناعمة. إنها "الفوضى الخلاقة" التي تنسب إلى ديك تشيني أحياناً، وإلى كونداليسا رايس أحياناً أخرى، في حين أن من ابتكرها هو دوغلاس فيث.

تكمن أهمية هذا النوع من الحروب في أنها توفر على الولايات المتحدة الخسائر البشرية والمادية، عن طريق تلزيمها لما يسمى بالمجتمع المدني الذي جرى تدريب مجموعات منه في مؤسسات خاصة في منطقة البلقان. في تونس على سبيل المثال، جرى إنشاء حوالى 9 آلاف جمعية. وفي مصر، أنشئ ما يفوق 20 ألف جمعية ضمن عناوين براقة سهلة الاستقطاب بعناوينها، من مثل حرية التعبير، وحقوق الإنسان، ونقص الخدمات، والجوع، والقمع، وغيرها من العناوين الجاذبة. 

كانت مهمة تلك الجمعيات إحداث تغيير في الوعي الجمعي.كان الأميركي مدركاً عدم قدرته على الاتكال على منظمات المجتمع في إحداث تغيير في سوريا، فعمل على المزج بين نظرية دوغلاس فايث "الفوضى الخلاقة" ونظرية برنارد لويس "الإخضاع بالقوة". كانت الحكومة السورية تدرك هذا البعد، لكن غاب عنها ما صنعته قطر وتركيا والسعودية من تجهيز قطعان من الإرهابيين الذين شكلت بعض المساجد حاضنتهم ومستودع ذخيرتهم.

كانت البدايات التي لم تدم طويلاً هي عناوين المجتمع المدني نفسها، لكنها، وبسرعة قياسية، تحولت إلى عنف. وقد عبّرت عن ذلك الجرائم التي ارتكبت بحق القوات المسلحة. كانت مجزرة جسر الشغور أحد عناوينها. أرادت الحكومة السورية نزع الذرائع بالذهاب إلى الإصلاح، لكن المشروع الأصلي بتدمير سوريا وتغيير بنيتها السياسية ودورها وموقعها كان قد أخذ مساره. كان مشروعاً لحساب الأميركي والعدو الصهيوني. تجلى ذلك باستهداف الضباط الاختصاصيين، سواء بالصواريخ أو الدفاع الجوي أو الطيارين.

رسمت الحكومة السورية استراتيجيتها لمواجهة الأهداف مع بدء تدفق المسلحين والسلاح من الخارج. العام 2013 كان عام المفاجآت. أدرك محور المقاومة حقيقة المشروع الأميركي الصهيوني، فكان دخول كل من إيران وحزب الله، ومن ثم روسيا، عاملاً حاسماً في دحره وعدم نجاحه.

لست هنا في صدد الدخول في التفصيلات الميدانية، فجلها، إن لم يكن كلها، معروف، إنما أردت بهذه السردية تسليط الضوء على الخطط والمشاريع التي اعتمدتها الولايات المتحدة حيال سوريا منذ لحظة الاستقلال إلى يومنا هذا.

لم تدخر الولايات المتحدة أسلوباً لم تمارسه حيال سوريا لإخضاعها، بدءاً بالانقلابات العسكرية، وصولاً إلى الإرهاب بأبشع صوره، من الداعشية إلى "النصرة" إلى الاستعانة بالدول الراعية والممولة للإرهاب، وهي الآن تحاول عبر الحصار والتجويع وسرقة الثروات تحقيق ما عجزت عن تحقيقه في الميدان. يبقى القول ختاماً إن ما دفعته سوريا من خسائر مادية وبشرية يبقى أقل كلفة مما لو سقطت لا سمح الله.