الثابت والمتغير في الاستراتيجية الأميركية
الثوابت الثلاثة في الاستراتيجية الأميركية كانت، وما زالت، الدول الثلاث التي توليها الولايات المتحدة الأهمية الرئيسية في استراتيجيتها الرئيسية.
من الثابت أن الاستراتيجية الأميركية التي تضعها عادة الدولة العميقة هي تعبير عن مسار، كما عن مصالح وأهداف ترسمها مؤسّساتها، آخذة بعين الاعتبار مصالح القوى المتشكلة داخلها وموازينها، ومجموع اللوبيات التي تشكلت عبر تطور النظام الرأسمالي الأميركي على مدى ما يقارب قرناً من الزمن.
هذا المسار بدأ بالتبلور بعد الحرب العالمية الثانية، إذ أخذت الشهية الاستعمارية تبرز، وكانت نتاج تراكم انتصارات عسكرية واقتصادية حققتها الدولة الأميركية في الحربين العالميتين الأولى والثانية، فقد شكل التراكم الكمي والنوعي الذي حققته الولايات المتحدة في هاتين الحربين قفزة كبيرة وهائلة في حركة تطورها الصناعي والاقتصادي وتراكم الثروة، أنتجتها الحاجة الماسة التي فرضتها الحروب، سواء على المستوى العسكري أو التقني أو على مستوى الاقتصادي والحاجات والموارد التي تناقصت جراء الحرب.
وجرى تعويضها بواسطة الولايات المتحدة، إذ اضطرت مصانعها إلى العمل ليلاً نهاراً لتوفير حاجات الحرب العسكرية والتقنية والغذائية، وأدت عملية تعزيز الإنتاج هذه إلى تراكم الثروة والقوة معاً، وشكلت بداية تشكل لوبيات مالية واقتصادية كبيرة، وخصوصاً لوبيات الصناعات الحربية التي بات لها تأثير كبير في جزء من التوجهات السياسية الأميركية.
إن تطوير الصناعات الحربية أمسى بحاجة إلى أسواق لتصريف المنتجات، وهو ما كان ينبغي للحكومة توفيره. هذا التراكم الكمي والكيفي من الصناعات الذي أدى إلى تكدس الثروة، شكل مدخلاً للتدخل في صياغة الاستراتيجيات التي تلبي هذه المصالح وتتواءم مع التطور الذي من المفترض أن يلبي مصالح هذه القوى، بعد أن باتت رقماً صعباً وصارت تتحكم إلى حد كبير بكيفية إنتاج السلطة، وخصوصاً الكونغرس الذي يصدر القوانين والقرارات ويتدخل في صياغة السياسات.
أخذ هذا التوجه مسارات عدة، سياسية واقتصادية وعسكرية وحقوقية، كانت بدايتها تشكيل منظمة الأمم المتحدة، بصفتها الناظم لحياة البشرية في كل ما يتعلق بالحرب والسلم الدوليين، بديلاً لعصبة الأمم التي تجاوزتها المتغيرات، والتي كانت قد تشكلت عقب الحرب العالمية الأولى.
جرت صياغة ميثاق الأمم المتحدة وفقاً لموازين القوى الناشئة، وشكل تعبيراً عنها، وأعطي حق النقض (الفيتو) في منظمة مجلس الأمن المنبثقة عن الأمم المتحدة للدول التي اعتبرت منتصرة في الحرب. كان ذلك الانتصار الأميركي الأول في ما يتعلق بمؤسسات القانون الدولي لمرحلة ما بعد الحرب.
بادرت الولايات المتحدة بعدها إلى طرح مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا الغربية التي أنهكتها الحرب ودمرتها. شكل هذا المشروع بدايات الهيمنة لصالح السياسات الأميركية الجديدة، ولتأمين مصالح الشركات الأميركية. استخدمت الولايات المتحدة لغة التخويف من البعبع السوفياتي، وأمسكت أوروبا من اليد التي تؤلمها، تحت ضغط حاجات إعادة الإعمار، لتبرر همينتها عليها تحت العناوين التالية:
أولاً: تخليصها من الخطر النازي
ثانياً: منع التمدد الشيوعي نحو أوروبا الغربية ومنع الخطر السوفياتي. (كان الاتحاد السوفياتي قد سيطر على أوروبا الشرقية).
ثالثاً، إعادة إعمار أوروبا، وإنشاء حلف شمال الأطلسي كقوة عسكرية ضاربة بوجه الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو لحمايتها. هكذا جرى تقسيم ألمانيا إلى دولتين شرقية وغربية في إطار تقاسم النفوذ لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
كان ذلك بداية مد النفوذ الأميركي خارج القوقعة الأميركية بين ضفتي الأطلسي والهادئ، وكان تعبيراً موضوعياً عن حاجات الشركات الصناعية الأميركية الكبرى، ولا سيما شركات التصنيع الحربي التي تحولت إلى عنوان الهيمنة الرأسمالية والإمبريالية. مع هذا التطور، بدأت ترتسم الملامح الأولى لاستراتيجية الهيمنة الأميركية على قسم من العالم.
عملت الاستراتيجية الجديدة على عنوانين: الحرب والاحتواء. كان من بين عناصر هذه النظرية أولاً محاولة الاحتواء المالي والاقتصادي العالمي، ولا سيما أن الولايات المتحدة كانت حينذاك تستحوذ على نصف الاقتصاد العالمي، فأُنشِئَت اتفاقية "بريتني وودز" التي جرى من خلالها تسعير الذهب (التغطية المفترضة للعملات) بالدولار الأميركي. وبذلك، أصبحت العملة الأميركية (الدولار) عملة التداول الرئيسية في الساحة العالمية، وأصبحت المعاملات المالية العالمية تمر حكماً بالبنك الفيدرالي الأميركي. كان ذلك ثاني أشكال السيطرة الأميركية، من خلال الإشراف على حركة أموال العالم.
رأت الولايات المتحدة بعد ذلك ضرورة التوجه نحو الهدف الثاني للسيطرة، وهو الحروب، لمد سيطرتها العالمية من جهة، ولإخضاع الدول المناوئة لها، والتي تقف عقبة في طريق سيطرتها العالمية، من جهة أخرى، وللعمل على تسويق نتاجها الحربي وتشغيل مصانعها الحربية من جهة ثالثة.
لقد خاضت الحروب في الكوريتين وفي كمبوديا وأنغولا وفيتنام ودول أخرى. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي، ارتفعت الرغبة الأميركية في الهيمنة على العالم عبر الحروب، وفقاً للنظرية التي طرحها جورج بوش الأب، وهي النظام العالمي الجديد، أي نظام عالمي جديد بقيادة الولايات المتحدة. وكان عدد من المنظرين والمفكرين الأميركيين ومراكز الدراسات والأبحاث المنتشرة في طول الولايات المتحدة وعرضها قد بدأوا مرحلة التنظير لهذه الهيمنة، أمثال برنارد لويس وهنتنغتون وفوكوياما وإليوت أبرامز وبول وولفو ويتز وريتشارد بيرل ودوغلاس فايث وغيرهم.
بدأت الولايات المتحدة تتحضر لتلك المرحلة مع مجيء جورج بوش الابن وسيطرة المحافظين الجدد الذين نموا في عهد ريغان. أدخل بوش إلى استراتيجيته نظرية محاربة الإرهاب التي مهد لها بتدمير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك.كان ذلك يهدف إلى خلق المبرر للحروب، استناداً إلى النظريات التي أنتجتها النخب الأميركية من جهة، ولإقناع دافع الضرائب الأميركي بالموافقة على الذهاب إلى هذه الحروب وتقبله دفع كلفتها من جهة أخرى، فكانت الحرب على كل من أفغانستان والعراق والنتائج المدمرة على كلا البلدين.
عندما يخرج رؤساء ويدخل آخرون إلى البيت الأبيض، فإن الاستراتيجية الأميركية تبقى ثابتة ولا تتغير بعناوينها الرئيسية. جل ما يتغير في هذه الاستراتيجية هو الوسائل والأساليب، وفقاً لرؤية الرئيس وطريقة مقاربته لتنفيذ هذه الاستراتيجية.
الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما ذهب إلى أن الحرب الخشنة عبر السلاح والدبابات والمدافع وحاملات الطائرات باتت مكلفة جداً مادياً وبشرياً، ولا سيما بعد الخسائر المادية والبشرية الكبيرة التي تلقتها الولايات المتحدة في كل من العراق وأفغانستان، وكان مقتنعاً بضرورة تغيير الوسائل مع الحفاظ على الأهداف، وذهب إلى ما يسمى بـ"الحرب الناعمة" عبر "الفوضى الخلاقة"، والحروب السيبرانية، والحروب الملونة عبر المجتمع المدني وجمعيات حقوق الإنسان وما تطرحه من عناوين براقة وجاذبة، والحروب الاقتصادية وحرب العقوبات والحصار، وهي الحروب التي باركها ترامب واعتمدها بشدة، بحيث بلغ عدد الدول الخاضعة للعقوبات الأميركية في عهد ترامب 36 دولة.
ما زال الثلاثي، روسيا الصين وإيران، الثابت الرئيسي في الاستراتيجية الأميركية، وما زال يشكل هاجساً لها أيضاً، ويقض مضاجعها، ولا سيما مع تطور قدرات تلك الدول عسكرياً واقتصادياً وتقنياً، إذ أصبحت الصين المنافس الاقتصادي الأول للولايات المتحدة، وصارت تطرح إمكانية إزاحتها من رأس الهرم الاقتصادي العالمي، واستعادت روسيا موقعها الذي فقدته مع انهيار الاتحاد السوفياتي، وعادت منافسة رئيسية على القطبية العالمية، وهي تهدد بكسر الأحادية القطبية التي فرضتها الولايات المتحدة على العالم عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، وتحولت إيران إلى قوة إقليمية كبرى تؤدي دوراً كبيراً في سياسات المنطقة، وهي متحالفة مع كل من روسيا والصين.
هذا الثلاثي الناشئ والمهدد للأحادية القطبية، والمهدد الاقتصادي والعسكري والتقني أيضاً للأحادية الأميركية وسيطرتها على العالم، واستطراداً إسقاطاً للأحادية القطبية، هو الثلاثي الذي يقع في صلب الاستراتيجية الأميركية التي عبر عنها بايدن بعد مرور شهر على توليه الحكم، وهو موروث أميركي أن يقدم الرئيس الجديد رؤيته للعالم ويقدم صورة عن الاستراتيجية التي سيعتمدها. لقد كان الثلاثي الروسي - الصيني - الإيراني في أول اهتماماته.
ما زالت روسيا العدو الأول للولايات المتحدة، في نظر بايدن، رغم أن الصين هي التي تهدد بإزاحتها من رأس الاقتصاد العالمي، لكن روسيا تستقطب اهتمامه الأول. ربما كان ذلك بسبب التطور العسكري وعملية التحديث التي أجراها بوتين لترسانته العسكرية، وربما بسبب المخاوف التي تبديها الإدارة الأميركية من الدور الذي يمكن أن تؤديه روسيا في أوروبا الغربية، في ما لو استطاعت إزاحة العداء الذي تعمل على تعزيزه الولايات المتحدة كل يوم، وبشكل ممنهج.
كانت الولايات المتحدة تنظر إلى روسيا نظرة إيجابية عقب انهيار الاتحاد السوفياتي وتسلّم يلتسين السلطة. وقد اعتبرت الانهيار والتفكك الذي حصل لدول الاتحاد السوفياتي مؤشر راحة كبيراً لها، ولا سيما مع تسلم يلتسين "السكير" السلطة، وظنت أن معضلتها مع الاتحاد السوفياتي انتهت، ولا سيما بعد أن فاقم يلتسين، الأوضاع المالية والاقتصادية للشعب الروسي، وأوصله إلى بيع مقتنياته وبيع ممتلكات الدولة، وصولاً إلى ملامسة بيع السلاح الاستراتيجي. وقد سهل ذلك سيطرة الولايات المتحدة وشركاتها على روسيا.
اعتبرت الولايات المتحدة آنذاك أن العدو الرئيسي أزيح من طريقها، وأن الطريق بات أكثر سهولة للهيمنة على العالم، بعد أن أفسح سقوط الاتحاد السوفياتي لها المجال لذلك، للانطلاق لمقارعة الصين وإيران وتحقيق التوسع العالمي والتفرد بالأحادية القطبية، لكن ما إن تسلم بوتين الحكم وبدأ بإعادة الاعتبار إلى بلاده كدولة عظمى، عاد العداء الأميركي لروسيا، كما كان أيام الاتحاد السوفياتي، وربما أكثر حدة.
أما بالنسبة إلى الصين، فقد كان الرئيس أوباما أول من تنبه إلى الخطر الصيني وأولاه أهمية. لقد أراد بداية أن يتخفف من أعباء الشرق الأوسط ليتفرغ لها، وحاول تسليم السلطة للإسلام السياسي بقيادة الإخوان المسلمين للتفرغ لمواجهتها، لكن مشروعه في المنطقة فشل، رغم ما أحدث من خراب.
مع مجيء ترامب إلى السلطة، حاول التضييق على العلاقات مع الصين، وحاول محاصرتها في بحر الصين الجنوبي، كما حاول التدخل في هونغ كونغ، كذلك في تايوان، ومحاصرة التفوق التجاري والتقني، وفرض الكثير من العقوبات والقوانين التي تحد من حريتها التجارية وتحاصر شركاتها الكبرى الإنتاجية والتقنية. ويبدو أن بايدن يسير في الطريق ذاته، لجهة التحرش ببحر الصين الجنوبي وتايوان وهونغ كونغ.
أما بالنسبة إلى إيران، فقد جهدت الولايات المتحدة، وما زالت، لفصلها عن كل من روسيا والصين. حاول أوباما ذلك خلال محادثات الملف النووي في العام 2015، لكنه فشل، وجهد لكي تحاول الشركات الأميركية احتواء إيران وإحداث متغيرات في منظوماتها القيمية والثقافية، لكنه فشل أيضاً، وهو ما دفعه إلى إجازة الحرب على اليمن بعد الوعد السعودي له بإنهاء الحرب خلال أسابيع، ما سينعكس على الجمهورية الإسلامية، من خلال إسقاط حليفها اليمني، لكن النتائج ارتدت على الأميركي سلباً. يحاول بايدن الآن إعادة الكرّة ومحاولة فصل إيران عن كل من الصين وروسيا، وربط العودة إلى الاتفاق النووي بشكل غير مباشر بذلك، ومحاولة ربط إنهاء الحرب على اليمن بهذه الأهداف.
إذاً، الثوابت الثلاثة في الاستراتيجية الأميركية كانت، وما زالت، الدول الثلاث التي توليها الولايات المتحدة الأهمية الرئيسية في استراتيجيتها الرئيسية. وهناك ثابت رابع لا بد من التطرق إليه، وهو الثابت الإسرائيلي "إسرائيل"، فهو الحضور الدائم والوجود المستدام في الاستراتيجية الأميركية، إلى درجة بات يشبه الحسابات المدورة في الميزانيات.