زيارة البابا للعراق بشرى أم شبهة؟
كانت توجهات البابا واضحة الأهداف والمرامي من اللحظة الأولى. إنها محاولة رسالية لتعميق اللحمة المجتمعية بين مكونات الشعب العراقي، بعد الشروخ التي تعرضت لها هذه البنية، جراء الأحداث التي عصفت بالعراق.
أثارت زيارة البابا فرنسيس للعراق زوبعةً من التعليقات بين مرحّب ومتحفّظ ومشكّك، وذهب البعض إلى تحميلها أكثر مما تحتمل. كانت ثمة رغبة فاتيكانيَّة واضحة بزيارة العراق منذ أكثر من عقدين، نظراً إلى مكانته التاريخية والحضارية من جهة، وعملية النزف التي يتعرَّض لها الحضور المسيحي فيه من جهة أخرى، ولا سيما أنه حضور تاريخي يعود إلى آلاف السنين، ويعدّ المسيحيون مكوناً رئيسياً من مكونات البلاد وبنيتها المجتمعية، ويشكل العراق حالة تأسيسية لعدد من الثقافات والحضارات في المنطقة منذ مطلع التاريخ البشري، وهو ما حكم زيارة منطقة أور التي انطلق منها النبي إبراهيم، أبو الأنبياء، منذ أكثر من 5 آلاف سنة. إنها إطلالة على التاريخ ببعديه الدينيّ والتاريخيّ معاً.
لم تسمح الظّروف سابقاً على مدى العقدين السالفين بحصول هذه الزيارة، نظراً إلى ما اكتنف الواقع السياسي والأمني والاجتماعي العراقي من اضطراب حال دون تحقيقها. ربما كانت الظروف التي تحيط بالمنطقة والمشاريع التي ترسم لها مدعاة للحذر أكثر مما هي مثار للراحة، ما يستدرج الحذر من أي زيارة أو مبادرة تأتي من الخارج، لكن تنبغي الإشارة إلى أن زيارة البابا جرى تحميلها أكثر مما تحتمل نتيجة هذه المخاوف، فالبابا ليس ممثلاً للغرب، كما أنه ليس الشخصية المثالية للترويج للمشاريع التي قد يرغب الغرب في تنفيذها.
يمثّل البابا قوة معنوية اعتبارية، لكنَّ هذه القوة غالباً ما تتوقّف على أعتاب المشاريع، فالغرب لا يولي منظومة قيم الفاتيكان أهمية كبرى عندما تتضارب مع مصالحه. لقد ذهب البعض إلى تشبيه البابا بهنري كيسنجر، على اعتبار أنه يزور المنطقة ليسوّق مشروعاً سياسياً بغطاء ديني، وذهب البعض الآخر إلى ربط الزيارة بتوقيع وثيقة الأخوة مع شيخ الجامع الأزهر في الإمارات المطبّعة مع العدو الإسرائيلي، وكأنَّ مهمة البابا ينبغي أن تكون منع دولة الإمارات من التطبيع! وإمعاناً في المغالاة، شبّه البعض المرجع الديني السيستاني بالرئيس المصري الراحل أنور السادات. إنها استعادة للأحداث انطلاقاً من فكرة المؤامرة، بصرف النظر عن رغبة المرجعين الدينيين وقدرتهما.
كانت توجهات البابا واضحة الأهداف والمرامي من اللحظة الأولى. إنها محاولة رسالية لتعميق اللحمة المجتمعية بين مكونات الشعب العراقي، بعد الشروخ التي تعرضت لها هذه البنية، جراء الأحداث التي عصفت بالعراق على مدى قرنين من الزمن، ولا سيما حقبة "داعش"، التي كان المسيحيون أكثر من دفع ثمنها، بشكل هدَّد وجودهم الماديّ في الأراضي العراقية.
أراد البابا أن يقول لمسيحيي العراق: إنكم جزء أصيل من النسيج الاجتماعي العراقي، رغم ما تعرَّضتم له من قمع وتهديد وجودي، كما أراد أن يثبت حضورهم في البنية المجتمعية العراقية. ليس ذلك فحسب، وإنما ذهب إلى دعوة المسيحيين العراقيين الذي غادروا العراق نتيجة الظروف التي سادت خلال العقدين المنصرمين للعودة إليه وإعادة تأكيد ولائهم لوطنهم.
لم يتوجّه البابا إلى المكوّن المسيحيّ فحسب، إنما توجّه إلى جميع مكوّنات الشعب العراقي، داعياً إلى اللحمة والمحبة والسلام، للحفاظ على هذا الوطن التاريخي العظيم. بهذا المعنى، كانت زياراته المتفرقة بين شمال وجنوب ووسط، وكانت لقاءاته مع الممثلين الدينيين للمكونات كافة.
أحد أبرز لقاءات البابا كان مع المرجع الديني السيد علي السيستاني، ممثل الطائفة الشيعية في العراق والعالم. هذا اللقاء يأتي استكمالاً لحوار الأديان الذي كان قد بدأه مع شيخ الأزهر، ممثل أهل السنة. وبذلك، حاول إقامة توازن في علاقته بين مكونات المنطقة كافة.
لقاء البابا والسيد السيستاني لم يكن يحمل مشروعاً سياسياً، مثلما حاول البعض أن يقول، ولكنه كان يحمل مشروعاً حوارياً إنسانياً، في إطار تكريس ثقافة الأديان ودعوتها للرحمة والوئام والسلام بين الشعوب.
كانت المنظومات القيمية حاضرة بقوة في اللقاء التاريخي، لتقطع الطريق على التأويلات، وذلك بشروط سبعة ضمنها السيستاني لقاءه وبيانه: لا للعنف، نعم للحقوق وللعدالة الاجتماعية، لا للظلم، لا للتطبيع، نعم لحقوق الشعب الفلسطيني. إنها رسالة شديدة الوضوح في توجهاتها نحو الحقوق والسلام المبني على العدل.