ترويض محمد بن سلمان والتحديات الأميركية
لا عجب في أن يقابل الرجل هذه الرسائل بإيجابية، فهو الشخص نفسه الّذي وثقت الشاشات في العام 2018 تلقيه التوبيخ من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لكونه لا يستمع إلى النصائح، وهو أيضاً الشخص الذي كان يقابل إهانات ترامب بودّ.
"في النهاية، نحن محكومون بعلاقتنا مع المملكة العربية السعودية. هذه العلاقة مرت بعدة محطات. ربما كان من أصعبها أحداث 11 أيلول/سبتمبر، عندما كان 15 من الخاطفين الـ19 سعوديين، في وقت كانت النزعة الوهابية تتلقى رعاية رسمية، ويشتغل الخطاب الديني على تحفيز التطرّف... رغم ذلك، استمرت العلاقة. لماذا؟ لأنَّ ثمة حقيقة لا يمكننا القفز عنها. كلا الطرفين بحاجة إلى بعضهما البعض". هذا ما جاء في تقرير تناولته شبكة "CNBC" الأميركية، نقلاً عن خبراء في السياسة الخارجية الأميركية.
بهذا الوضوح، قابلت الدوائر المقرّبة من إدارة جو بايدن انتقادات الداخل التي طالت القرارات الأميركية بعد الإفراج عن خلاصات التقرير السرّي الذي أعده جهاز الاستخبارات الوطنيّ حول قضية مقتل جمال خاشقجي. صحيح أن التقييم انتهى إلى الإقرار بشكل صريح بأنَّ ولي العهد السعودي رأى في خاشقجي تهديداً للمملكة، وحمّله بشكل مباشر مسؤولية الجريمة، إلا أنَّ قرارات المحاسبة أتت مخيّبة للآمال بعد إقرار عقوبات طالت 76 شخصية سعودية، باستثناء من أوعز بتنفيذ الجريمة، أي شخص محمد بن سلمان.
أكبر من محاولة إذلال علنية أرادتها فئة كبيرة من الأميركيين الذين راهنوا على خطاب تمجيد القيم الذي شرّع أبواب البيت الأبيض أمام جو بايدن، ليركب الرجل موجته في حربه على الشعبوية التي كرست سياسات ترامب وجودها في الداخل الأميركي.
يحفظ هؤلاء تعهّدات بايدن جيداً - حين كان ما يزال مرشحاً للرئاسة الأميركية - بأن الولايات المتحدة لن تتخلى عن قيمها من أجل النفط أو بيع الأسلحة. وفي وقت كانت المنظمات الحقوقية الأميركية تطالب بعقاب واضح لمحمد بن سلمان، "انتهى الأمر ببايدن في المكان نفسه الذي انتهى إليه ترامب"، وفق تعبير صحيفة "نيويورك تايمز".
وكتب نيكولاس كريستوف في الصّحيفة نفسها منتقداً الخطوة: "حتى من منظور السياسة الواقعية، فإنها فرصة ضائعة لمساعدة المملكة العربية السعودية على فهم أن مصلحتها الخاصة تكمن في العثور على ولي عهد جديد غير متهور ولا يقتل الصحافيين ويقطع أوصالهم".
وفي ما يشبه المساءلة، توجَّه كريستوف إلى الإدارة الأميركية بالقول: "كان بايدن يخشى فرض عقوبات على محمد بن سلمان، كي لا يسمم العلاقات مع المملكة العربية السعودية. نعم، هذا القلق مشروع، وأنا أوافق على أنه غالباً ما يكون من الضروري التعامل مع حكام ملطّخة أيديهم بالدماء، ولكن في هذا التوازن الكبير بين القيم والمصالح، فإن الخطر الأكبر هو أن محمداً بن سلمان، البالغ من العمر 35 عاماً فقط، سيصبح ملكاً بعد وفاة والده المسن، وسيحكم بتهور لسنوات عديدة، ما يخلق فوضى في الخليج وتمزقاً في السعودية… قد يعتقد البعض أنَّ الأمر السيئ للغاية هو القتل، لكنْ هناك قادة آخرون قتلوا الناس أيضاً. هذا صحيح، لكنَّ محمداً بن سلمان يسمم كل شيء يلمسه. خطف رئيس الوزراء اللبناني، وفتح نزاعاً مع قطر، وتسبب بأسوأ كارثة إنسانية في العالم في اليمن. كما أنه قام بسجن ناشطين في مجال حقوق المرأة".
رجل الأفعال المتهوّرة.. ولكن!
في مقابل الانتقادات، كانت مكاشفات المسؤولين الأميركيين المقربين من دوائر الحزب الديمقراطي تخرج لتقدم خطاباً يوازي بين القيم التي ما انفك الحزب يرفعها مقابل شعبوية ترامب والمصالح الفعلية للولايات المتحدة، فوضع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الخطوات الأميركية في إطار جهود "إعادة ضبط العلاقات السعودية الأميركية". وبوضوح، قال الرجل إن ما أقدمت عليه بلاده لا يمزق العلاقات مع الرياض، وأن بلاده لا ترغب في القطيعة بقدر رغبتها في ضبط العلاقات، مؤكداً أن الاقتصاد العالمي ما يزال "بحاجة إلى النفط السعودي، ولو لم نكن بحاجة إليه في الولايات المتحدة، وما يزال السعوديون بحاجة إلى حمايتنا العسكرية".
وعلى خطّ موازٍ، كان الإعلام الأميركي يُقرّ بأنّ معاقبة بايدن لابن سلمان سيكون ثمنها مكلفاً للغاية، وسيضع واشنطن في موقف عدائي مع الرياض، وهو ما لا ترغب فيه الولايات المتحدة حالياً. وذهبت الدوائر المقربة من الحزب الديمقراطي في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى إلى وصف الإجراءات الأميركيّة بكونها خطوة موازنة لإعادة تعريف العلاقات الأميركية السّعودية، على قاعدة أنَّ جملة المصالح الأميركية في الشرق الأوسط لا يمكن تحقيقها بغياب دعم فاعل من الرياض، بدءاً من محاولات احتواء النفوذ الإيراني المتمدّد إقليمياً، مروراً بمحاربة الإرهاب كعنوان أميركي ترفعه أينما أرادت لها حضوراً ميدانياً في المنطقة، إلى توظيف عمليات التطبيع العربي مع الاحتلال في مساعيها للضغط على الفلسطينيين، إلى محاولة إنهاء الحرب في اليمن، وصولاً إلى تحقيق استقرار للسوق النفطي.
وفي ورقة بحثيَّة أعدّها كلّ من دينس روس، المساعد الخاص السابق لأوباما، وروبرت ساتلوف، المدير التنفيذي لمعهد واشنطن، قدم الرجلان خطاباً بدا مصاغاً للتأثير في الجمهور الأميركي أولاً، فنّدا فيه الإيجابيات التي يتمتع بها "رجل الأفعال الاندفاعية المتهوّرة"، على حد وصفهما، والتي تؤهله لأن يبقى بمنأى عن أي عملية محاسبة من شأنها أن تقصيه عن المشهد السياسي في الداخل السعودي.
وأضافت الورقة: "رغم كل أخطائه" - أي ابن سلمان - فإنه يقود "ثورة من الأعلى"، تتجسّد في ما يُسمى بـ"خطة التحول الوطني التي يصبح فيها التحديث والقومية مصدراً للهوية والشرعية عوضاً عن التقليدية والوهابية"، ما سيمكّن الرياض من التخلّص من إرث رافق تأسيسها، ولطالما أحرج في الشكل حلفاءها الأميركيين على مدى عقود، رغم أنهم لم يتوقّفوا عن توظيفه واستثماره مضموناً في صراعاتهم على مستوى المنطقة والعالم الإسلامي.
مزايا محمد بن سلمان لا تتوقف على ممارسته العملية "على صعيد توسيع الحقوق المدنية، والفرص الاقتصادية للمرأة"، والإصلاحات التي أدخلها إلى المناهج التربوية، والقيود الصارمة التي فرضها على المؤسسة الدينية، وفق المعهد الأميركي الذي كان يحرص على تقديمه كليبرالي نهضوي ثائر على السعودية بنسختها التقليدية.
وأبعد مما ذكر، ثمة مزايا ترجّح كفّة المضي في الاستفادة أميركياً من بقائه في سدة الحكم، فهو الجاهز دوماً لوضع كامل بيضه في السلة الأميركية، فجهود الرجل هي التي أخرجت مشهد التطبيع العربي الرسمي مع الاحتلال إلى الضوء، وهو الذي أخذ ما عُرف بـ"صفقة القرن" على عاتقه، من خلال الضغوط التي مارسها على الفلسطينيين بشكل مباشر، أو من خلال تجنيده الإعلام السعودي والخليجي الحليف لضرب صورة الشخصية الفلسطينية عموماً وتهشيمها، وشيطنة كل ما يمت إلى مقاومتها بصلة.
"إدارة بادين محقةٌ في حسها الغريزي لإنهاء الشيك على بياض مع السعوديين، ولكن التعامل مع شريك مشوب بالعيوب لا يشبه مواجهة خصم متعنّت". بهذه الخلاصة، اختُتمت ورقة معهد واشنطن، لتقول إنَّ مزايا ابن سلمان يعوّل عليها، وبالتالي فهو يستحق أن يُمنح فرصة.
ولكن المسألة أبعد من قضية مزايا شخصية لرجل خرج مهزوماً من كل معاركه الإقليمية. ففي أعراف بيت الحكم السعودي، الفشل يُفضي إلى العزل عن المشهد السياسي. هكذا تمت إزاحة سعود بن عبد العزيز سابقاً، ولكن العوامل الخارجية هي التي تعزز حظوظ الأمير الذي أضعف بلاده وأغرقها بالفشل، وهي عوامل تفرضها التحديات الأميركية المتفاقمة بحكم تنامي الصين كقوة اقتصادية باتت تشكل التهديد الأول بالنسبة إلى الولايات المتحدة.
الاستدارة نحو شرق آسيا
إنه تحول الأولويات الأميركية من الشرق الأوسط إلى آسيا. وقد ترددت تصريحات المسؤولين الأميركيين عن مقاربة جديدة تجاه آسيا في أكثر من موقف. تعتبر واشنطن أنَّ التحديات الأمنية الكبرى تأتي من ناحية روسيا والصين. ويتفق الجمهوريون والديمقراطيون على أنَّ الصين تمثل "التحدي الأكبر" الذي يعرّض بلادهم لخسارة موقعها العالمي. هذا القلق يفاقمه تأكيد مركز الاقتصاد وأبحاث الأعمال البريطاني (سي إي بي آر) بأن الصين ستكون القوة الاقتصادية الأولى في العام 2028، قبل الموعد المحدد سابقاً بأكثر من 5 سنوات، ما بات يستوجب الإسراع في سياسة "الاستدارة شرقاً" التي وضعتها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون (في العام 2010)، من خلال نقل الكثير من الموارد من الشرق الأوسط، وتخصيص جهود أكبر لمواجهة الصين، ودعم حلفاء واشنطن في جنوب شرق آسيا.
مؤخراً، كشفت مجلّة "فورين بوليسي" عن تعديلات أجراها مجلس الأمن القومي الأميركي، قضت بتقليص حجم إدارة الشرق الأدنى وعدد العاملين في شؤون الشرق الأوسط. وبحسب المجلة الأميركية، إنَّ التعديلات فرضتها مناقشات السياسة الخارجية المستمرة حول ما بات يعرف بـ"منافسة القوى العظمى".
موقع "بوليتيكو" (Politico) الأميركي أيضاً نشر قبل أيام تقريراً حدَّد فيه أولويات السياسة الخارجية لإدارة بايدن، ونقل عن مقربين في إدارته قولهم: "إذا أردنا ترتيب المناطق من حيث أولويتها بالنسبة إلى الرئيس، فإنَّ الشرق الأوسط ليس في المراكز الثلاثة الأولى" (منطقة آسيا والمحيط الهادئ، تليها أوروبا، ثم نصف الكرة الغربي)، وهو ما يعكس إجماعاً من الحزبين على أن القضايا التي تتطلب اهتمامنا تغيرت مع عودة المنافسة بين القوى العظمى".
الترويض أميركياً
الأولويات المُلحّة أميركياً أتت لتعزز فرص محمد بن سلمان في البقاء في المشهد السياسي السعودي والوصول إلى العرش بسلوك مضبوط أميركياً، إذ لا مصلحة للولايات المتحدة في فوضى سعودية تفرضها أي تغييرات لن تتوقف عند شخصه، بقدر ما ستعيد ترتيب كامل الطاقم السياسي الحاكم في المملكة، والذي نجح ابن سلمان بربط كل مفاصله به وحده.
لهذا، تتجنَّب الحسابات الأميركية فوضى سعودية يفرضها غياب البديل القوي، في ظل قبضة ابن سلمان على الجيش والحرس الوطني، فالبدائل المستعدة لملء الفراغ ترزح تحت اعتقال وإقامات جبرية. هكذا نجح الرجل في أن يُصعب عملية إزاحته بإقصاء منافسيه عن المشهد. وبتوصيف قد يحمل نوعاً من المبالغة، إلا أنه يعبّر عن واقع الحال سعودياً، يقول المعارض السعودي حمزة الحسن: "في الحديث عن الإطاحة بمحمد بن سلمان، فإن مجرد الإشارة إلى مسؤوليته عن قتل خاشقجي، وأنه الطرف الذي أعطى الأوامر، يخلق مناخاً ما للعمل على الإطاحة به في حال وجد البديل. والحال أن ابن سلمان قضى على أجنّة البدائل، سواء من المعارضة أو من داخل العائلة المالكة أو من الجيش."
وأمام خيار الفوضى خليجياً، فإن بقاء محمد بن سلمان سيكون الخيار الأنسب بالنسبة إلى الإدارة الأميركية الحريصة على استقرار الساحة الخليجية. هذا الخيار تعززه شخصيته القابلة للضبط، أو بمعنى أدق للترويض أميركياً، فتخرج تصريحات الخارجية الأميركية لتؤكد أن ابن سلمان هو نظير وزير الدفاع الأميركي، وهو تصريح تنتفي مفاعيله رغم تعمد تكراره أميركياً أكثر من مرة، ولو بصيغ متعددة، فالإدارة الأميركية التي تواصلت مع الملك السعودي الأسبوع الماضي، هي التي سربت للصحافة أنها مررت رسائل مسبقة عن إعادة تقويم العلاقات بين البلدين، "ولكن لم يكن من الواضح إلى أي مدى استوعبها الملك الذي يبلغ من العمر 85 عاماً ويعاني حالة صحية سيئة"، في اعتراف ضمني بأن القرار والنفوذ في يد ولي العهد.
رغم ذلك، يمضي الخطاب الرسمي الأميركي في تقزيم الرجل، في رسالة على أكثر من صعيد للجمهور الأميركي الذي يرى في إذلال الرجل شيئاً من عدالة كان يودّ لها أن تتحقق، وفي رسائل مباشرة لمحمد بن سلمان بأنَّ أدبيات العلاقة مع "أميركا العظمى" مختلفة، وأنَّ ما بعد مرحلة ترامب لن تكون أبداً كما قبله.
لا عجب في أن يقابل الرجل هذه الرسائل بإيجابية، فهو الشخص نفسه الّذي وثقت الشاشات في العام 2018 تلقيه التوبيخ من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لكونه لا يستمع إلى النصائح، وهو أيضاً الشخص الذي كان يقابل إهانات ترامب بودّ، وهو الذي سيكون على استعداد تام لتلقّي وفعل وتقديم كل ما يتطلّبه الوصول إلى العرش. هذا ما يفهمه الأميركيون ويعوّلون عليه لكسر جموح تهوّره وتطويعه. أما الإقرار بمسؤوليته عن جريمة قتل خاشقجي، فقد أُعلن ليبقى ورقة قابلة للتوظيف أميركياً لابتزاز الرجل أو إزاحته متى سمحت الفرصة.