تونس: الصراع بين الرؤساء الثلاثة قد يعصف باستقرار البلاد وأمنها
رفض الحوار بين الرؤساء الثلاثة في تونس، وتمديد أمد الأزمة ومناخ الصراع يأتي في الوقت الَّذي تدعو منظمات المجتمع المدني إلى الحوار.
تطفو إشارات صغيرة على مسرح الأحداث السياسية في تونس، غير أنَّ دلالاتها خطيرة، وتؤكّد أنَّ البلاد مقبلة ربما على سيناريو ضبابي يتجاوز كلّ التوقعات، فمن الغريب أن يتّهم رئيس الجمهورية قيس سعيد بإخفاء تلقّي الدولة التونسية هبة من الإمارات تتمثل بـ500 لقاح صينيّ ضد وباء "كوفيد-19"، ما استدعى لجوء مؤسّسة الرئاسة إلى تقديم توضيح، أعلنت فيه أنها سلمت اللقاحات مباشرة لمركز الصحة العسكرية، وتفنيد ما راج من شائعات قائلة إنَّ الرئيس أو الفريق العامل معه أو عائلته استفادوا منها قبل بقية الشعب التونسي.
ومما يطرح أيضاً أكثر من نقطة استفهام أن تعلن رئاسة الحكومة في المقابل أنها لا تعلم بوصول اللقاحات إلى تونس، لتؤكد عزمها فتح تحقيق في الموضوع. والحال أن تسلّم الهبة وتسليمها كان بعلم ومتابعة من وزارات الصحة والداخلية والخارجية، وأيضاً مصالح الجمارك التونسية.
خبر وصول اللقاحات في إطار من التكتّم تداوله الرأي العام التونسي أيضاً، وفي إطار لا يخلو من التوظيف السياسي، إذ أصبحت كواليس البرلمان تتحدّث عن أنَّ رئيس المجلس راشد الغنوشي قد يكون تلقى لقاح "كوفيد -19"، وهو الذي خرج منذ أيام وسط حشود من أنصاره في شوارع العاصمة بلا كمامة، ومن دون الالتزام بإجراءات الوقاية.
إنها واقعة بسيطة تكشف غياب التنسيق بين مؤسَّسات الدولة، وغياب الثقة بين رأسي السلطة التنفيذية، وتواصل القطيعة بينهما، وتصيّد كلّ جهة أخطاء الجهة الأخرى، ما شجّع على تسمّم المناخات الّتي تعدّ الأرضية المثلى لسريان الإشاعات وما قد ينجم عنها من توتير الأجواء وتعقيد الأوضاع. يأتي كلّ ذلك فيما تراوح الأزمة السياسيّة التي دخلت أسبوعها الخامس مكانها.
يأتي ذلك في ظل سياسة صمت مطبق إزاء مبادرات الحوار التي تدفع منظمات المجتمع المدني بقوة إلى طرحها، كسبيل لنزع فتيل التوتر وحلحلة الأزمة السياسية والإسراع في البحث عن حلول للوضع الاقتصادي الكارثي الذي يهدد آلاف المؤسسات بالإفلاس.
ثمة خطر غير مسبوق يهدّد اقتصاد البلاد واستقرارها الاجتماعي، ويتطلّب، بحسب مراقبين، مناخاً من الحوار والمصارحة، وجرأة في تشخيص الوضع وطرح الحلول من أجل الحدّ من نزيف الاقتصاد، ودوران عجلة الإنتاج من جديد، وضخّ جرعات من الأمل في نفوس التونسيين بأنّ الأزمة، مهما اشتدَّت، فإنّ التونسيين يملكون القدرة على استنباط الحلول لتجاوزها.
وبدلاً من هذا الالتقاء والتقارب بين أصحاب القرار الذين ائتمنهم الشعب على قيادة البلاد بمنطق "لا غالب ولا مغلوب"، تغليباً لمصلحة البلاد واستشعاراً لدقة المرحلة، يتواصل الجفاء في ما بينهم، ويتمترس كلّ طرف في موقعه، لتتواصل أيضاً سياسة توجيه الرسائل المبطنة وتسجيل النقاط بمناسبة أو بغير مناسبة.
إنَّ تأكيد الرئيس قيس سعيد خلال استقباله رئيس المجلس الأعلى للقضاء يوسف بوزاخر دعمه اللامحدود للقضاة الشرفاء الحريصين على التصدّي لكل مظاهر الفساد، وتأكيده أهمية تحقيق استقلالية القضاء ودوره في بناء دولة القانون، يأتي في وقت تُعهد إلى القضاء ملفات حارقة من شأنها أن تعصف بموازين المشهد السياسي في البلاد.
وإضافةً إلى الملفّ المتعلّق برئيس حزب "قلب تونس"، نبيل القروي، الملاحق بتهم التهرب الضريبي وشبهات الفساد وملف الجهاز السري لحركة "النهضة"، وشبهة التورط في الاغتيالات السياسية، قد يؤدي نظر القضاء في التجاوزات والجرائم الانتخابية المرتكبة في السباق الانتخابي في العام 2019 إلى إسقاط قائمات أو تعليق عضوية عدد من النواب في البرلمان، إذ أكَّد تقرير دائرة المحاسبات أنّ "النهضة" وحليفها "قلب تونس" ارتكبا جرائم انتخابية من خلال تعاقدهما مع أطراف أجنبية وشركات دعاية سياسية، وهو ما يتعارض مع القانون الانتخابي.
الكرة في ملعب القضاء، في معركة رهانها الاستقلالية والانتصار لدولة القانون والمؤسَّسات، غير أنها تجري على أرضية محفوفة بصراع سياسي قد يؤدي الصدام فيه إلى زلزال سياسي غير مسبوق. من هنا، يقرأ البعض أنَّ استعراض "النهضة" قوّتها من خلال مسيرة "الثبات ودعم الشرعية" قد يكون رسالة موجّهة رأساً إلى الرئيس قيس سعيد، كما أن استدعاء عدد من السّفراء الأجانب للدخول على خطّ الأزمة للوساطة ومحاولة فرض أجندة للحلّ، يعود أساساً إلى إدراك الحركة أنَّ سعيد أغلق منافذ الحوار والتفاوض.
إنّ رفض الحوار بين الرؤساء الثلاثة وتمديد أمد الأزمة ومناخ الصراع يأتي في الوقت الَّذي تدعو منظمات المجتمع المدني إلى الحوار، وتستشعر دقة ما يتربّص بالبلاد من خطورة في الأوضاع الاقتصادية.
إنها مفارقة تعكس أنَّ الصراع السياسي الذي يعدّ عنوان المرحلة طغت عليه النرجسية، وغاب عنه العقل وتغليب المصلحة الوطنية، ما يعني أنَّ معركة كسر العظام قد تعبث باستقرار الدولة وأمنها، بما يخرج الصّراع من دائرة الرؤساء الثلاثة ومن لفّ لفّهم إلى الشارع الذي قد ينتفض ليقول كلمته التي لن تكون على الأرجح في خانة خطاب العقل والحكمة وتصحيح المسار، بقدر ما قد تدفع الأوضاع إلى مزيد من الفوضى والانقسام.