"لعبة" الصّواريخ وخروقات "داعش" وقوات "الناتو"!

ويبدو أنَّ قراءة تفاعلات المشهد الأمني والسياسي الراهن في العراق لا تكتمل من خلال تحليل خلفيات لعبة الصواريخ التي تطلق بين الفينة والأخرى وأسبابها ودوافعها ومعطياتها وتداعياتها.

  • المنطقة الخضراء في بغداد
    المنطقة الخضراء في بغداد

لا يختلف اثنان على أن استهداف البعثات الدبلوماسية الأجنبية في العراق يعد أمراً خاطئاً، ويطلق رسائل سلبية عديدة، لعل من بينها انعدام الأمن في البلاد وعجز الحكومة عن توفير الحد المعقول والمقبول من الحماية للمؤسسات المحلية أو الأجنبية، ناهيك بالمواطن العادي.

 وحين تتعرّض بعثات دبلوماسية أجنبية لاعتداءات متكررة خلال فترات زمنية قصيرة، من دون تحديد الجهات المتورطة، فإن ذلك يؤشر إلى خلل كبير وفاضح في الأداء الأمني تتحمّله في الدرجة الأساس السلطة التنفيذية، متمثلةً بالقائد العام للقوات المسلّحة والمفاصل الأمنية والاستخباراتية الخاضعة لإشرافه العام.

تأخذ الأمور أبعاداً أخرى حين توجّه أصابع الاتهام ضمناً أو صراحة إلى الحشد الشعبي. ولا شكَّ في أن هذه الاتهامات خطيرة، ويراد منها خلط الأوراق. ومن غير المستبعد أن تكون الجهات التي توجّهها وتحاول تسويقها عبر منابر سياسية وإعلامية مختلفة هي ذاتها التي تقف وراء استهداف البعثات الدبلوماسية وقصفها، وإلا هل يعقل أن تقدم مؤسسة أمنية خاضعة للسياقات الرسمية على خطوات من هذا القبيل؟ وما الفائدة الحقيقية التي يمكن أن تتحقّق منها؟

هذا ما تحدّثت عنه شخصيات سياسية متعددة، في الوقت ذاته الذي حذرت من خطورة هذه السيناريوهات، ودعت الجهات المسؤولة إلى الكشف عن كل الخفايا والأسرار والحقائق. إن تتبع خيوط عمليات قصف البعثات الدبلوماسية من شأنه أن يساهم في إماطة اللثام عمن يقف وراء إرباك الأوضاع الأمنية ويسعى إلى إعادة البلاد إلى المربع الأول.

ويبدو أنَّ قراءة تفاعلات المشهد الأمني والسياسي الراهن في العراق لا تكتمل من خلال تحليل خلفيات لعبة الصواريخ التي تطلق بين الفينة والأخرى وأسبابها ودوافعها ومعطياتها وتداعياتها، من دون التوقف عند أحداث ووقائع أخرى، والبحث عن نقاط الترابط ومحطات الالتقاء في ما بينها.

الحديث عن "لعبة" الصواريخ الموجّهة إلى البعثات الأجنبية والمطارات والقواعد العسكرية في بغداد وأربيل وصلاح الدين، لا ينبغي أن يفضي إلى إهمال حقيقة وماهية الخروقات الداعشية المتكررة خلال الأسابيع أو الشهور القلائل الماضية في أكثر من محور، والتي استهدف أغلبها قوات الحشد الشعبي، وتسبّب باستشهاد العشرات، بينهم قادة ميدانيون، علماً أن التنسيق بين المؤسسات والأجهزة الأمنية والعسكرية العراقية ينبغي أن يكون بمستوى عالٍ، فضلاً عن التنسيق والتواصل بين تلك المؤسسات والأجهزة من جانب، وقوات التحالف الدولي المتواجدة على الأرض وفي السماء من جانب آخر.

إلى جانب ذلك، إنَّ معظم المناطق التي شهدت خروقات لعصابات "داعش" الإجرامية كانت قبل عدة أعوام خاضعة لسيطرة تلك العصابات بصورة شبه كاملة، إن لم تكن كاملة، ناهيك بوجود العديد من الحواضن لها في تلك البيئة الاجتماعية، وهو ما أتاح للتنظيم الذي هُزم في الميدان أن يعيد تنظيم جزء من صفوفه في صيغة الخلايا النائمة.

ولعل العملية النوعية الأخيرة في منطقة الطارمية شمال العاصمة بغداد، أشارت بوضوح إلى ذلك الأمر، وجاءت في الوقت المناسب، لأنها، بحسب تأكيدات قادة أمنيين، ساهمت في إحباط مخطط كبير لاستهداف مناطق في العاصمة بعمليات إرهابية بواسطة سيارات مفخخة وانغماسيين، من دون إغفال دلالات التفجيرات الإرهابية الانتحارية التي وقعت في ساحة الطيران وسط بغداد في 21 كانون الثاني/يناير الماضي، بعد هدوء وتوقف لمثل تلك العمليات دام حوالى عامين.

نقطة الوصل والالتقاء بين الهجمات الصاروخية على البعثات الدبلوماسية الأجنبية وبعض المواقع الأخرى وخروقات "داعش" الأمنية تتمثل في توفير وتهيئة الأرضيات المطلوبة لإطلاق الدعوات من داخل العراق وخارجه لإبقاء القوات الأميركية - الأجنبية على أرض البلاد، تحت ذريعة عدم استقرار الأوضاع الأمنية وبقاء التهديدات.

واليوم، يوجد في بغداد، كما هو الحال في واشنطن وعواصم أخرى، من يسوّق ويروّج لبقاء القوات الأميركية والأجنبية في العراق، وزيادتها أيضاً، تحت ذريعة "أنّ مسلّحي داعش ما زالوا موجودين في أطراف المدن والقرى والمناطق النائية، وهو ما يضع الكثير من العراقيل أمام وصول القوات العراقية إلى تلك المناطق الخطرة، ومكافحة تلك العناصر التي تختبئ في الصحراء الواسعة والكهوف والجبال".

وفي ضوء هذه الرؤية المرتبكة، يذهب من يتبنّاها إلى "أن القوات العراقية متفقة على بقاء القوات الأميركية، وربما زيادة عددها أكثر من السابق، بعد أن أقدم ترامب على إغلاق مراكز التدريب والقواعد العسكرية، وأبقى على قاعدتين في أربيل شمال العراق وقاعدة عين الأسد غرب محافظة الأنبار فقط"، وهو ما يتناقض تماماً مع ثوابت المرجعية الدينية، ومطالب الحراك الجماهيري السلمي، ومزاج الشارع العراقي على وجه العموم، ويتقاطع مع قرار مجلس النواب الصادر في الخامس من كانون الثاني/يناير 2020، والقاضي بإلزام الحكومة بإخراج القوات الأجنبية من البلاد.

وبما أن الأجواء والظروف السياسية والشعبية غير مهيأة لفكرة بقاء القوات الأميركية، ناهيك بزيادة أعدادها، فلا بدَّ لواشنطن ومن معها من البحث عن بديل مناسب يضمن بقاء الأمور على حالها من حيث الجوهر، في الوقت ذاته الذي يؤدي إلى تخفيف ردود الأفعال والمواقف الرافضة. من هنا، جاء سيناريو زيادة أعداد قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) العاملة في العراق، علماً أن الفكرة ليست جديدة، ولكن لم تتبلور الظروف المناسبة والضرورات الملحة لترجمتها على أرض الواقع.

 ويقول أستاذ العلوم السياسية والسفير السابق قيس النوري: "في ظل ثبات المصالح والأهداف الاستراتيجية للبيت الأبيض، سوف تحافظ واشنطن على هدف الإمساك بالعراق وإبقائه خارج التأثير في بيئته الإقليمية، كأحد الأهداف الاستراتيجية لأميركا وإسرائيل، وستخضع عملية تقييم إبقاء القوات الأميركية من عدمه في العراق لهذا الهدف والمعيار الاستراتيجي لدى واشنطن".

نقطة الوصل والربط الثالثة مع "لعبة" القصف الصاروخي وخروقات "داعش" هي الدعوة أو الإعلان عن التوجه إلى زيادة أعداد قوات "الناتو"، التي غالباً ما يتردّد بأنَّ "مهامها تدريبية، وليست قتالية!"، ويتردّد كذلك بـ"أنَّ الوضع الأمني يتطلب أن تكون هناك مساعدة، ليس من الولايات المتحدة الأميركية فحسب، بل من الدول المتطورة أيضاً في حلف "الناتو"، للقضاء على الإرهاب الحقيقي الذي تعانيه أيضاً دول الجوار، وليس العراق بمفرده".

 هذا التّسويق قوبل برفض عراقي قاطع لم يكن أقل مستوى ووضوحاً من رفض بقاء القوات الأميركية والإصرار على إخراجها من البلاد في أسرع وقت. ولأنَّ هناك استحقاقات سياسية مختلفة قادمة، أبرزها الانتخابات البرلمانية المبكرة، في حال أجريت في الموعد المحدد لها في العاشر من شهر تشرين الأول/أكتوبر المقبل، إلى جانب التحديات الاقتصادية والصحية المقلقة، فإن الضغوطات الخارجية، معززة بمشاكسات ومشاغبات داخلية، ستتواصل من أجل توجيه الأمور في المسارات التي تخطط لها واشنطن وحلفاؤها، بصرف النظر عن غياب ترامب وحضور بايدن!