لماذا تتظاهر حركة "النهضة" رغم وجودها في الحكم؟
تدعو حركة "النهضة" للحشد في الشارع، وكأنها تستشعر خطراً، وربما كانت لدى قياداتها معلومات خطيرة عن تربص قوى داخلية وخارجية بها.
اختارت حركة "النهضة" أن تخرج إلى الشارع، وسخرت كل إمكانياتها للتعبئة الشعبية من أجل استعراض قوتها. قرار "النهضة" جاء وسط أزمة سياسية تعتبر الأكثر تعقيداً منذ العام 2011، ولا تختلف في خطورتها عن الأزمة التي شهدتها البلاد إثر استشهاد الناشط السياسي محمد البراهمي في العام 2013.
حينها، خرجت الحركة إلى الشارع، ليس لاستعراض قوتها فحسب، وإنما للدفاع عن نفسها أيضاً، ففي ذلك الوقت، ووسط ظروف إقليمية اتسمت بإزاحة الإسلاميين في مصر، هناك من أراد تكرار السيناريو نفسه في تونس. لذلك، كان من المنطقي أن تخرج إلى الشارع لمواجهة الدعوات لإعادة إلى السجون وإخراجها من الحكم، اقتداءً بالتجربة المصرية.
اليوم، تدعو الحركة للحشد في الشارع، وكأنها تستشعر خطراً، وربما كانت لدى قياداتها معلومات خطيرة عن تربص قوى داخلية وخارجية بها. في الحقيقة، توجد معطيات تؤكد توجسها، فأغلب معارضيها، سواء من الأحزاب اليمينية أو الاجتماعية، أصبحوا لا يجدون حرجاً في استعمال معجم "الإقصاء" و"المحاكمة" ضدها. ولئن كان مثل هذه الدعوات هو الخبز اليومي لبعض الأحزاب، مثل "الدستوري الحر"، فإنه يعتبر خطاباً جديداً لدى أحزاب كانت بالأمس القريب لا تعادي "النهضة"، مثل حزب "التيار الديمقراطي" وحركة "الشعب".
وإضافة إلى الاتهامات التي تصدر عن قيادات هذه الأحزاب ضدها، والتي تتهمها بالفساد والإرهاب وتلقي أموال من الخارج وغيرها من التهم الخطيرة، فإنها تحاول الآن إقالة رئيس البرلمان وحركة "النهضة" راشد الغنوشي، فضلاً عن تنسيقها مع رئيس الدولة قيس سعيد من أجل تعطيل عمل رئيس الحكومة الحالي هشام المشيشي المتحالف مع الحركة.
تستشعر "النهضة" خطورة هذه البيئة السياسية المناوئة، وتعرف جيداً أن عدد أصدقائها ضمن هذه البيئة قليل جداً مقارنة بعدد خصومها أو أعدائها في بعض الأحيان. لقد أرادت من خلال قرار التظاهر أن تضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، فالحركة الإسلامية تعلم جيداً، ورغم تقليلها من أهمية أرقام استطلاعات الرأي التي تظهر تراجعاً كبيراً في شعبيتها، أن جزءاً من هذه الأرقام لا يبتعد كثيراً من الواقع. لذلك، أرادت اغتنام الفرصة في هذه الموجة والنزول إلى الشارع، من أجل استعراض قوتها ومحاولة تكذيب أرقام استطلاعات الرأي.
في الآن نفسه، تعلم "النهضة" أنها بقيت، بعد انهيار حزب "نداء تونس"، الحزب الوحيد القوي تنظيمياً وتعبوياً والقادر على التواجد في الشارع بقوة خاصة. وقد كانت تراقب مدى قدرة خصومها الذين خرجوا إلى الشارع منذ أسابيع، ولمرات متتالية، على التعبئة والحشد، والذين كانت أعدادهم ضعيفة ومخيبة للآمال. لذلك، إن أي مسيرة ضخمة للحركة في هذا التوقيت وهذه المرحلة من الأزمة السياسية قد تخدمها أيما خدمة. وقد ركزت على كلمات مفاتيح خلال هذه التظاهرة، أهمها "الشرعية" و"الدستور" و"حماية البرلمان".
في الحقيقة، لم تختر "النهضة" هذه الشعارات من فراغ، فكل شعار منها موجه إلى طرف بعينه، وخصوصاً رئيس الدولة قيس سعيد، الذي تعتبر بعض قياداتها أنه مختطف من قبل أحزاب المعارضة، ويتم استعماله كرأس حربة لضربها. لذلك، إن تأكيد الحركة الإسلامية ضرورة حماية الدستور، إنما هو رسالة لرئيس الدولة الذي يتهمه معارضوه بأنه شل العمل الحكومي بفعل استئثاره بتأويل الدستور وتفسيره وفق أهوائه وأهواء حاشيته. أما الحديث عن مساندة الشرعية ودعم البرلمان، فهو شعار موجه أيضاً إلى رئيس الدولة والأحزاب الملتفة حوله أيضاً... والملاحظ أن عداء رئيس الدولة للبرلمان والأحزاب أصبح واضحاً، بل إن مؤشرات عديدة توحي بأنه قد يستغل أي ثغرة دستورية أو ظرف سياسي وأمني بعينه، من أجل الإجهاز على النظام السياسي القائم، وخصوصاً البرلمان.
كل هذه الرسائل تريد "النهضة" أن توجهها إلى وجهاتها المرغوبة، المعارضة ورئاسة الدولة والقوى الإقليمية والدولية أيضاً، وهي ما زالت تؤمن بأهمية وجود دول مساندة لها وللتجربة الديمقراطية بشكل خاص. لذلك، ليس من الغريب أن يلتقي رئيس الحركة راشد الغنوشي السفير الأميركي في تونس. وقد دافع رئيس مجلس شورى النهضة عبد الكريم الكريم عن هذا اللقاء الذي جرى عشية خروج "النهضة" إلى الشارع، واعتبر أن لقاء السفير الأميركي مهم للتجربة الديمقراطية التونسية في هذا التوقيت، لأنه يتزامن مع رحيل من أسماه "الشعبوي ترامب"، وقدوم رئيس جديد يدافع عن الديمقراطية والتنوع.
إن كلام رئيس مجلس شورى "النهضة" يؤكد أن الحركة الإسلامية تعول كثيراً على الورقة الأميركية لكسب تأييد دولي مهم في معركتها مع خصومها. لذلك، إن في خروجها إلى الشارع، وبقوة، رسالة إلى مثل هذه القوى الإقليمية والدولية بأهميتها في الساحة التونسية كقوة لا يستهان بها.
وبين رسائل "النهضة" ورسائل المعارضة، تراوح الأزمة السياسية التونسية مكانها، ويستمر الشد والجذب بين القوى السياسية، ومعه تستمرّ معاناة التونسيين، وسط غياب الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية.