تونس المتداعية... بلاد تترنَّح بسبب جرعات زائدة من الديمقراطيّة
السنوات العجاف التي عاشتها تونس، وما تزال، مكنت القوى الفاسدة، من رجال أعمال ونقابيين وسياسيين ومهربين، من التغلغل داخل كل الأجهزة الأمنية والسياسية والنقابية والإعلامية والحكومية.
لا تبدو تونس في أفضل أحوالها. إنّها حقيقة يتّفق عليها الجميع، سواء كانوا من الداخل أو الخارج. لا يتعلَّق الأمر هنا ببعض الصعوبات الاقتصاديّة، مهما كان حجمها، أو بأزمات سياسيّة، مهما كان عمقها. هذه الأزمات الظرفية تمسّ جميع الدّول والشّعوب.
باتت الأزمة في تونس أكثر خطورة، وصارت تهدّد المكتسبات التي تحققت على مدى عقود. واليوم، تبدو الطبقة السياسية عاجزة عن التوصل إلى منهج للحكم يحقق التوازنات، وينجز الإصلاحات، ويطبق مبادئ الحكم الرشيد والعدالة بين الطبقات والفئات، ويقضي على الأمراض التي تنهش المجتمعات من فساد ولوبيات، ويبعث الأمل لدى الأجيال الشابة التي فقدت في أغلبها الأمل بالمستقبل.
لا شكّ في أنَّ الانقلاب الشّامل الّذي عرفته تونس في العام 2011، والّذي تجلّى بانهيار منظومة سياسيّة قويّة كانت تتحكّم بالبلاد، ساهم بشكل كبير في هذا التخبّط وعدم وضوح الرؤية الّذي يسيطر على البلاد، فالنظام الّذي كان قائماً في زمن زين العابدين بن علي، ورغم هناته الكثيرة، يحسب له أنّه كان قادراً على التحكّم بخيوط اللعبة السّياسية والاجتماعية والاقتصادية بفضل تركّز السلطة بين يدي رئيس واحد.
جاء حكّام تونس الجدد، لكن لم يكن أحد منهم قادراً على أن يحظى بإجماع شعبي ومجتمعي يمكّنه من تصدّر المشهد وبناء تونس جديدة. بدا أولاً أنَّ حركة النهضة يمكنها القيام بهذه المهمة، لكن سرعان ما تبيَّن عكس ذلك، وخصوصاً مع ظهور قوّة أخرى منافسة تتمثل بحزب "نداء تونس" الّذي وعد بإصلاح أخطاء النهضة وبناء تونس جديدة.
لم ينجح هذا الحزب بالمحافظة على تماسكه وبقائه، فتحوَّل إلى أشلاء، ثم إلى هباء. وبين هذا وذاك، بقيت تونس وشعبها ينتظران الإصلاحات الحقيقية التي تنعكس مباشرة على حياة المواطنين، فبين صعود حزب وتقهقر آخر، وبين صراع وخصومة سياسية، كانت الحكومات تتغيّر، ومعها كانت اللوبيات ومجموعات الضغط تستفيد من ضعف الدولة، لتمارس أسوأ أنواع الفساد الّذي طال كلّ المجالات والقطاعات العامّة والخاصّة، بل إنَّ هذه اللوبيات تجاوزت جريمة الفساد، لتنتقل إلى مرحلة أخرى أكثر خطورة، وهي وضع كلّ العقبات لمنع أيّ إصلاحات مستقبلية أو أي محاولات من الحكومات القادمة لوضع البلاد على سكّة التغيير نحو الأفضل.
السنوات العجاف التي عاشتها تونس، وما تزال، مكنت القوى الفاسدة، من رجال أعمال ونقابيين وسياسيين ومهربين، من التغلغل داخل كل الأجهزة الأمنية والسياسية والنقابية والإعلامية والحكومية، وذلك إما لتسميم الأجواء السياسية وإما لعرقلة أي نفس إصلاحي في البلاد، فأضحى المشهد كما نراه اليوم: توتر سياسيّ، وتراجع اقتصاديّ، وغياب كلي لأي قدرة حكومية أو سياسية على التحرك في الاتجاه الصّحيح.
هنا، تتّجه أصابع الاتهام في كلّ الاتجاهات، مرة إلى الإسلام السياسي، ومرة إلى الثورة برمتها، ومرة إلى قوى عالمية وإقليمية، كفرنسا والإمارات مثلاً، وأصبح التونسيون يخبطون خبط عشواء، ويعلقون فشلهم في إنقاذ بلدهم على شماعة الخارج والداخل.
ولو طلب من التونسيين أن يوجّهوا نصيحتهم إلى أحد الشعوب التي أسقطت حاكمها الدكتاتوري، لكانت النصيحة: "لا تهرولوا إلى الديمقراطية. تريَّثوا، وحاذروا أن تضعفوا دولتكم. قوموا بإصلاحات ضمن دولة قوية". نعم، هذا ما يقوله التونسيون اليوم وينصحون به جميع الشعوب، فكساء الديمقراطية الَّذي تلحّفت به تونس منذ العام 2011، لم يكن ما تحتاجه البلاد فعلاً، بل إنها تحتاج إلى مرحلة انتقال ديمقراطيّ بأدوات متناسبة مع ذلك. لم تكن تونس مستعدّة لكامل تلك الجرعة من الديمقراطية، بما تحمله من واجهات جميلة مغرية تتحدَّث عن التداول السلمي للسلطة والحملات الانتخابية المنمّقة والمناظرات التلفزيونية.
اكتشف التونسيّون أنَّ هذا العرس الديمقراطي يشبه إلى حد كبير الحفلة الصاخبة المليئة بالمتع. وعندما عادوا إلى واقعهم السياسي التعيس، سرعان ما اكتشفوا زيف هذه المتع الزائلة. ولم يعد سراً اليوم أنه، وعندما كان الجميع يرقصون على أنغام العرس الديمقراطي، استباحت جهات دوليّة وداخليّة البلاد، وهندست لكيفية نهب خيراتها، عبر دعم هذا الحزب السياسيّ أو ذاك أو الإبقاء على حالة الصراع السياسي.
ضمن هذه القراءة النقديّة لما حصل ويحصل منذ 10 سنوات، تبرز المطالبات اليوم بضرورة إعادة إرساء النظام الرئاسيّ والقضاء على الفوضى التي تشتّت السلطة بين عدة جهات وأحزاب. ويبدو أنَّ تونس تسير بسرعة في هذا الاتجاه، أي إعادة تقييم تجربتها الماضية، وإرساء "جمهورية ثالثة" تقطع مع الفوضى التي تعيشها البلاد، وتعقلن منسوب الديمقراطيّة أو الترف الديمقراطي الّذي كاد أو يكاد يعبث بما تبقى من الدولة التونسية.