المشهد الفلسطينيّ بين تحدّيات الوضع السياسيّ والانتخابات
الإمساك بالهموم والمعاناة الاقتصادية والاجتماعية، باعتباره المدخل لتصحيح الأوضاع الداخلية، كما يحاول البعض أن يسوق لمشروعه الانتخابي، سيترتب عليه العديد من المحاذير والمخاطر.
حتى تتمكّن الإدارة الجديدة للبيت الأبيض برئاسة الديمقراطي جو بايدن، من الإمساك بملفات السياسة الخارجية والتحرك من المربع الذي غادرت منه الإدارة السابقة ورئيسها المهزوم دونالد ترامب، سيكون الوضع الفلسطيني على تخوم حالة جديدة في العديد من النواحي، وأبرزها تجديد النظام السياسي بمكوناته الرئيسية (التشريعي للسلطة ورئاسة السلطة والمجلس الوطني الذي يمثل تجمعات الشعب في الوطن والشتات).
بعد مرور هذه الفترة الانتقالية، سنكون أمام المواقف الرسمية للبيت الأبيض، وسيخرج الجميع من دائرة الانطباعات والتقديرات والرسائل المشفرة إلى الحقائق المباشرة والعملية، ولا يستطيع أحد أن يتجاهل التداعيات التي ترتبت على السلوك العدواني للإدارة السابقة ضد الشعب الفلسطيني والتحالف الأعمى مع حكومة نتنياهو، لمحاولة فرض الهيمنة والسيطرة على المنطقة والتأسيس لمعادلة جديدة على أنقاض القضية الفلسطينية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
وفي هذه الفترة من الحراك البطيء وشبه الفراغ الذي ستتأثر به المنطقة والإقليم، سيخوض الشعب الفلسطيني، وللمرة الأولى بعد أكثر من 15 عاماً على الانقسام المدمر، غمار العبور من بوابة الانتخابات لتحديد الخيارات والمسار الذي سيمكنه من التعامل مع الوقائع والمتغيرات في المنطقة، والتي كانت وما زالت تحتاج إلى المزيد من الوضوح والحسم في الموقف الفلسطيني، لجهة التصدّي للأخطار التي تهدد مستقبل الحقوق الوطنية الفلسطينية.
ماذا عن "صفقة القرن"؟
الأقرب إلى الحقيقة أن جميع الرؤساء السابقين للبيت الأبيض لم تختلف مواقفهم من حيث الجوهر إزاء القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، وفي النظرة إلى الدور الذي يضطلع به الكيان المحتل في السياسة الخارجية الأميركية.
كذلك، إنّ الفريق المسؤول في إدارة بايدن من المدرسة نفسها التي عملت مع الرئيس الأسبق أوباما، ولم يعد سراً ما تناقلته الوثائق الرسمية بشأن المخططات الحقيقية التي جرى إعدادها والسعي لتنفيذها في عهده، وتحديداً حول ما يُسمّى بـ"الشرق الأوسط الجديد"، وهو ما يرجّح غياب الفرص الجدية لتراجع هذه الإدارة عن الخطوات الاستباقية التي عملت عليها الإدارة السابقة، وتحديداً إزاء موضوع نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والاعتراف بالسيادة الاحتلالية على المدينة، واعتبارها العاصمة الموحدة لكيان الاحتلال، والاعتقاد بأن الإدارة الجديدة ستحاول الالتفاف على المطالبة الفلسطينية بالتراجع عن هذه الخطوات التي تدمر فرص التسوية العادلة، وستسعى للبحث عن صيغ وأفكار قريبة من عناصر "صفقة القرن" التي رضخ لها بعض الحكام العرب، والضغط لإعادة تحريك مسار المفاوضات لتجاوز مخاطر الجمود الحالي، وبالتحديد بعد الفشل الذي حصده اللاعبون بورقة الجماعات الإرهابية التكفيرية والأزمات الشديدة التعقيد الناجمة عن محاولات فرض التفرد الأميركي في رسم المشهد العام للمنطقة والإقليم.
الموت السريري لـ"صفقة القرن" جاء نتيجة الإجماع الفلسطيني على رفضها، والتصدي الحازم من القيادة الرسمية والرئيس أبو مازن لكل الإملاءات والتهديدات وأشكال العقوبات والحصار. ومع رحيل إدارة ترامب العنجهية المتغطرسة، لن يمنع حكام الكيان من ممارسة أقصى الضغوط على الإدارة الجديدة لإنعاش الحياة في بعض أجزاء الصفقة، ولتحريك قطار التطبيع الذي لم يساعده عامل الزمن على أن يواصل المسير بعد المحطة المغربية، وكذلك لمحاولة تأكيد وترسيم اعتراف ترامب بالسيادة الاحتلالية على الجولان السوري المحتل، وتكريس الأمر الواقع على الأرض وفي السياسة، إضافة إلى ما يبذله كيان الاحتلال من جهود، بالتعاون مع شركائه من بعض الحكام العرب، للتأثير في مسار الخطوات العمليّة التي يجري الإعداد لها بشأن العلاقة مع الملف النووي الإيراني والعديد من قضايا المنطقة والإقليم، وإزاء جرائم الحرب التي ترتكب بحق الشعب اليمني.
ولعلّ تفكّك حكومة الاحتلال، وتصاعد التجاذبات والأزمات الداخلية الإسرائيلية، وتقديرات النتائج المرتقبة للجولة الثالثة من الانتخابات البرلمانية (الكنيست)، ساهمت كلّها في توفير المزيد من الوقت لإدارة بايدن لتجنّب التعامل مع قضايا المنطقة ووضعها بعيداً من الأولويات الضرورية والملحة، على الرغم من الارتباك والاكتواء بنار الانتظار الذي طال الحلفاء التقليدين للسياسة الأميركية، وكذلك الذين يدعون عدم الارتهان للموقف الأميركي والقلق والتوتر على موقعهم في معادلة الحسابات الأميركية. وستبقى العلاقة مع إيران بكل أبعادها هي القضية الرئيسية والمحورية التي ستتقرّر في ضوئها الأحداث والتطورات المقبلة في المنطقة والإقليم.
وفي الوقت نفسه، إنّ انشغال الإدارة الجديدة بالتعامل مع الأزمات الحادة والعميقة التي تركتها خلفها إدارة ترامب على الكثير من الصعد والمستويات الداخلية، والتي ضربت بقوة فرضية النموذج الذهبي للديمقراطية الأميركية، وتهدد بالمزيد من الانقسامات والانهيار في المجتمع والمؤسسة المهيمنة على البلاد، فإنَّ الحكومات الأوروبية لا تبدو مؤهلة للاستفادة من الفرص والتقدم لتعزيز حضورها وتأثيرها في السياسة الدولية. وعلى الأرجح أنها ستبقي رهانها على المشاركة من تحت المظلة الأميركية في تقاسم المصالح، للحفاظ على معادلة العلاقات القائمة حالياً، على الرغم من التصدعات التي حدثت في السنوات الأربع الماضية من عهد ترامب، بينما ستستمر العديد من الدول الأخرى حول العالم، وفي مقدمتها الصين وروسيا، في تنمية قوتها لجهة كسر التفرد الأميركي على السياسة العالمية، والدفع نحو تكريس تعدد الأقطاب وتوازن المصالح، ولجم التوحش الإمبريالي الذي تضاعفت غطرسته بفعل السطو على حقوق الشعوب حول العالم ومقدراتها.
الخيارات والانتخابات
ثمة سؤال كبير في الساحة الفلسطينية عن الآفاق الممكنة ما بعد إدارة ترامب وفرص التغيير في السياسة الأميركية. بناءً عليه، يتعدد الجواب والخطاب السياسي الذي سيجري تعبئة وتحشيد الرأي العام للالتفاف حوله والتصويت في الانتخابات التشريعية المقبلة في 31 أيار/مايو 2021.
هذه الانتخابات هي الثالثة منذ تأسيس السلطة الفلسطينية، وقد تكون الأكثر أهميةً وتأثيراً بفعل المتغيرات التي وقعت منذ 15 عاماً على جميع الأصعدة السياسية والوطنية الجماهيرية والاقتصادية والاجتماعية، وإزاء أداء مؤسسات السلطة وأولوياتها في تمكين وتعزيز مقومات الصمود الوطني وإرساء القوانين والتشريعات التي تنظم الحياة المجتمعية على منظومة الأسس الديمقراطية، لتعزيز النسيج الاجتماعي واللحمة الوطنية والنهوض بالأعباء والتحديات المطلوبة لاستكمال مسار الاستقلال الوطني.
في هذه الانتخابات، من الصّعب رصد المزاج الجماهيري أو السيطرة عليه لصالح هذه البرامج الدعائية للوائح الانتخابية أو تلك، والتي تتميّز أولوياتها من حيث الشكل في إطار السعي لمقاربة الهموم المباشرة للمواطنين الذين تضاعفت معاناتهم كثيراً بعد انسداد أفق المفاوضات، والواقع الذي تجسد على الأرض بعد الانقسام بين الضفة وغزة، وغياب السلطة المركزية الواحدة التي تتحمل كل المسؤوليات عن حياة الناس وقضاياهم.
كما أنّ الهوّة اتسعت كثيراً في العلاقة بين مكوّنات الحركة الوطنية والجمهور الفلسطيني، في ظلّ التدهور الذي أصاب العديد من الفصائل والمنظّمات في أوضاعها الداخلية وحضورها الجماهيري ومشاركتها في مواجهة المخاطر التي تستهدف الحقوق المشروعة للشعب، بعد استنفاد جدوى التعامل مع العمل السياسي التفاوضي المجرد، وما وقع في المنطقة من متغيرات كبرى تبدّلت بموجبها خارطة التحالفات ومراكز القوى.
الإمساك بالهموم والمعاناة الاقتصادية والاجتماعية، باعتباره المدخل لتصحيح الأوضاع الداخلية، كما يحاول البعض أن يسوق لمشروعه الانتخابي، سيترتب عليه العديد من المحاذير والمخاطر، إذ حاول قبل ذلك عرابو "صفقة القرن" الترويج لأوهام الازدهار الاقتصادي على حساب أولوية الحلول للقضايا السياسية.
وكذلك، إنّ الإصرار على تجاهل ضرورات الخروج من القيود والممرات الإجبارية إلى أولوية التعامل مع المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني فوق كل الحسابات والاجتهادات التي أضرت بالقضية الوطنية وراكمت المزيد من التحديات لتجاوزها، لا يقل خطورة في طريق البحث عن منهجية جديدة تتناسب وطبيعة الواقع والدروس والعبر المستخلصة.
الانتخابات هي المحطّة الأولى في مسار طويل من العمل المطلوب لإعادة القوة للوضع الفلسطيني، وينبغي تقديم الحلول الواقعية الصحيحة والتشديد على الترابط العضوي بين استكمال مهمات التحرر الوطني والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي وإعادة تشييد الثقة والآمال، بعيداً من النفاق والخدمات وإشاعة الأوهام لسرقة الأصوات الانتخابية وتوظيفها في استثمار المصالح الخاصة والشخصية.
إعادة بناء الآمال للخروج من هذه الانتخابات بخيارات وأولويات واستعداد لمواجهة التحديات الكبرى التي تقف في طريق انتزاع الحرية، تبدأ بإزالة الأوهام بأن الإدارة الجديدة للبيت الأبيض ستختلف عن الإدارة السابقة، فهي لا تختلف عنها سوى بشكل ونوع الأدوات التي تستخدمها لمواصلة محاولات القضاء على الحقوق العادلة والمشروعة للشعب الفلسطيني وغيره من الشعوب العربية.