رسائل السيد نصر الله في ظل متغيّرات المنطقة

تكتسب رسالة أمين عام حزب الله أهميتها لسببين أساسيين، فهي تأتي أولاً في سياق تطورات كبيرة تحصل في المنطقة والعالم، وتندرج ثانياً في إطار توضيح موقف المقاومة بعد سلسلة مواقف وتقديرات برزت أخيراً من الجانب الإسرائيلي.

  • تنظر
    تنظر "إسرائيل" بقلق إلى هذه التطورات الدولية وانعكاساتها الإقليمية.

لا يخرج أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير عن سياق التزمت به المقاومة على مدى سنوات. أكثر من مرة، أعلن أنه لا يبحث عن مواجهة مع "إسرائيل"، لكنه مستعد دائماً لأي حرب قد تفرض عليه. فرض الحرب قد يبدأ بكسر قواعد الاشتباك أو المغامرة بعمل عسكري أو أمني مبني على حسابات خاطئة قد يصعب ضبط إيقاعها وارتداداتها اللاحقة.

في نهاية خطابه بمناسبة "ذكرى القادة الشهداء"، ليل الثلاثاء، توجّه السيّد نصر الله إلى رئيس أركان العدو الإسرائيلي بالقول: "إن قصفتم مدينة سنقصف مدينة، وإن قصفتم قرى سنقصف المستوطنات"، محذراً من أن "لا أحد يضمن ألا تتدحرج الحرب القصيرة إلى حرب شاملة".

تكتسب رسالة سيّد المقاومة أهميتها لسببين أساسيين، فهي تأتي أولاً في سياق "تطورات كبيرة تحصل في المنطقة والعالم بعد رحيل دونالد ترامب ووصول إدارة أميركية جديدة"، وفق تعبير السيّد نصر الله نفسه، وتندرج ثانياً في إطار توضيح موقف المقاومة بعد سلسلة مواقف وتقديرات برزت في الأيام والأسابيع الأخيرة من الجانب الإسرائيلي.

في الشقّ المتعلّق بتطورات المنطقة، لا شكّ في أن إدارة جو بايدن تحمل مقاربات جديدة تختلف عن الإدارة السابقة بنسب متفاوتة تبعاً للملفات، وإن كانت المصالح الأميركية هي الثابت الوحيد من بين المتغيرات. لقد أطلق دونالد ترامب سياسة في الشرق الأوسط ارتكزت على دعم السعودية، وممارسة أقصى الضغوط على إيران، ورعاية حلف جديد في المنطقة بين "إسرائيل" وبعض الدول الخليجية والعربية، ومحاولة وأد القضة الفلسطينية. 

رغم ذلك، من السذاجة الاعتقاد بأن الإدارة الجديدة مقبلة على تغيير تحالفاتها أو الارتداد عن مسار التطبيع، لكن الخطوات التي أقدمت عليها إيران بحرفية في الوقت القاتل خلال الساعات الأخيرة من عهد ترامب، تمثّل على الأرجح أوراق قوة في وجه ضغوط أميركية مرتقبة في إطار إعادة التفاوض معها. لقد ألزم البرلمان الإيراني الحكومة بخطوات ومواعيد محددة تتخلى بموجبها طهران عن بعض القيود، سواء الطوعية أو المنصوص عليها في الاتفاق النووي.

تدرك طهران أنَّ الحديث لا يقتصر على برنامجها النووي، بل يشمل بشكل أساسي دعمها لحركات المقاومة في المنطقة وصواريخها الدقيقة. قضيتان سبق أن حاولت إدارة أوباما أن تخضعهما للتفاوض من دون أن تنجح.

تحاول الإدارة الأميركية خلال هذه الفترة ترتيب أوراقها قبل طرحها على طاولة التفاوض مع إيران، وسط ترجيحات عدد من المحللين والمتابعين بأن هذه الخطوة ستحصل عاجلاً أم آجلاً.

مقابل الضائقة التي تعانيها إيران بسبب الحصار والعقوبات المفروضة عليها، يبدو أن جعبة إدارة بايدن تفتقر هذه المرة إلى أدوات الضغط اللازمة أو المؤلمة مقارنة بالإدارتين السابقتين. من جهته، محور المقاومة لم يعد كما كان قبل أربع سنوات، لا في إيران ولا في اليمن ولا في لبنان. يكفي في هذا الإطار استعادة ما أعلنه السيد نصر الله في مقابلة مع قناة "الميادين" أواخر العام الماضي، عندما قال إن حزب الله بات يمتلك ضعفي عدد الصواريخ الدقيقة التي كانت بحوزته قبل عام، مشيراً إلى أن على الإسرائيلي أن يقلق في البر والبحر والجو.

في المنظور الأوسع، تتلازم نظرة المؤسسات العميقة داخل أميركا، وخصوصاً البنتاغون، إلى المنطقة، مع أنواء تعصف بموازين القوى العالمية، بما يهدّد بشكل داهم هيمنتها وريادتها. لا تختبئ إدارة بايدن ولا تناور عندما تشير إلى الخطر الماحق القادم من الصين. في هذا السياق تحديداً، تحتلّ إيران بموقعها الاستراتيجي في المنطقة مكانة يصعب تجاهلها من قبل أميركا، وهي بوابة أساسية للصين على طريق الحرير الممتد إلى غرب آسيا، وتعد قوة إقليمية كبرى بامتداداتها وتحالفاتها وقدرتها العسكرية، ومن المهم بالنسبة إلى الولايات المتحدة تحييدها قدر الإمكان عن الصين.

من المستبعد أن تتخلّى الولايات المتحدة عن منطقة الشرق الأوسط، كما يجري التداول في بعض الأوساط. أميركا معنية بقطع الطريق على الصين نحو نفط الخليج أولاً، كما أنها معنية بالتفوق الإسرائيلي وهيمنته على المنطقة ثانياً، إضافةً إلى أن تحالفها مع السعودية يبقى من الثوابت بسبب مكانة الأخيرة الرمزية والمعنوية، فضلاً عن ثرواتها وموقعها.

 صحيح أن الولايات المتحدة تعبت من كلفة الحروب ومن الانخراط المستمر في أزمات المنطقة، إلا أنها على الأرجح ستحاول ترتيب موازين القوى فيها وعدم ترك فراغ يمكن أن تملأه الصين أو روسيا، بموازاة تحولها أو استدارتها شرقاً. استدارة تتطلب إعادة تموضع وتوزيع للقواعد والقطعات العسكرية وإعادة ترتيب للأولويات والأكلاف.

تقول ميشيل دنّ، مديرة برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة "كارنيجي" في هذا الإطار، إن جو بايدن سيسعى، على غرار سلفيه دونالد ترامب وباراك أوباما، إلى خفض التكاليف المالية والبشرية التي تتكبّدها الولايات المتحدة، نتيجة انخراطها في منطقة تتراجع أهميتها الاستراتيجية، والتركيز على ترقية مصالح أخرى على المستويين الوطني والدولي.

تنظر "إسرائيل" بقلق إلى هذه التطورات الدولية وانعكاساتها الإقليمية. من الصعب قراءة التصريحات الواردة من قادتها بمعزل عن هذه التغيرات القائمة أو المحتملة في المستقبل المنظور. من هنا، جاء خطاب السيد نصر الله الأخير ليقطع الطريق أمام أي إجراء محتمل مهّدت له "إسرائيل" إعلامياً، كما يستشف من تصريحات مسؤوليها. إجراء قد تراه مناسباً وتجد فيه فرصة في هذا التوقيت استباقاً لأي توجّهات أميركية.

أبرز التصريحات والتقديرات الإسرائيلية المشار إليها سابقاً عرضها "معهد أبحاث الأمن القومي" ضمن فعاليات مؤتمره السنوي أواخر الشهر الماضي، إذ جرت الإشارة إلى "لعبة الحرب"، وهي "سيناريو الرد الإيراني المحتمل لمواجهةٍ تؤدي إلى حرب في الشرق الأوسط بين المحور الذي يضمّ إيران وسوريا وحزب الله، وإسرائيل والولايات المتحدة والإمارات"، وفق توصيفه.

رئيس المعهد الإسرائيلي اللواء احتياط عاموس يادلين رأى أنّ لعبة الحرب "تظهر الحاجة إلى معالجة مسألة الصواريخ الدقيقة لحزب الله"، مضيفاً أن "تبادل الضربات المضبوطة بين الطرفين يمكن أن يؤدي إلى إنتاج فرص لتوجيه ضربة وقائيّة ضد هذه المنظومة الخطيرة". وهنا مربط الفرس في الخطاب الإسرائيلي.

رغم ذلك، يعترف المعهد بمحدودية القدرة الإسرائيلية مقابل تعاظم قدرة حزب الله على إلحاق الضرر بالجبهة الإسرائيلية، عندما يوضح أنه "يجب بذل جهود أمنية وسياسية لمنع الحرب واستنفاد البدائل لتحقيق أهداف إسرائيل"، وإلى أن "جيش" الاحتلال يدير أموره منذ سنوات من دون خطة.

هذا ما أكّدته صحيفة "يديعوت أحرونوت"، من خلال إشارتها إلى مئات الصواريخ الدقيقة لدى محور المقاومة، والتي بإمكانها أن تُلحق بـ"إسرائيل أضراراً جوهرية، وأن تشلّ منظومات حيوية عسكرية ومدنية في الجبهة الداخلية"، الأمر الذي ينسجم مع التقرير الصادر عن "معهد أبحاث الأمن القومي"، الذي يوضح أنّ التهديد الاستراتيجي يكمن في آلاف الصواريخ الدقيقة من لبنان وسوريا والعراق وإيران.