الاتحاد الأوروبي والصّين: "اتفاق تاريخيّ" يرسم توازنات العالم الجديد
يتوقَّع الأوروبيون أن تُعامَل شركاتهم في الصين مثل معاملة الاتحاد الأوروبي للشركات الصينية، وأن يضمن الاتفاق احترام الملكيّة الفكريّة للشركات الأوروبية.
توصَّل الاتحاد الأوروبيّ والصين في 30 كانون الأول/ديسمبر 2020 إلى اتفاق استثماريّ "مبدئي" واسع النطاق بعد 7 سنوات من المفاوضات الصعبة. توقيت توقيع الاتفاقية أظهرها وكأنها اتفاقية مهربة قبل تولي الرئيس الأميركي جو بايدن منصبه، والذي ما لبث فريقه الإداري المساعد أن أعرب عن خيبة كبيرة من بروكسل وبرلين التي أدت دوراً كبيراً في الفضاء الأوروبي لتمرير التوقيع عليها.
يحتاج الاتفاق الاستثماري الأوّلي إلى مراجعة قانونيّة بعد وضع اللمسات الأخيرة، ثم يقدَّم لنيل الموافقة من مجلس الاتحاد والبرلمان الأوروبييْن، حتى يوقع بصيغته النهائية مطلع العام المقبل، بالتزامن مع تسلّم فرنسا الدوري لرئاسة الاتحاد الأوروبي، في توزيع أدوار بين قاطرتي الاتحاد الأوروبي في برلين وباريس.
أعاقت جائحة كورونا عجلة الاقتصاد الأميركي، ما دفع الصين إلى تبوؤ المركز الأول في الشراكة التجارية مع الاتحاد الأوروبي. وقد بلغ الرصيد الاستثماري الضخم للأوروبيين في الصين نحو 150 مليار يورو، في مقابل استثمارات صينية في دول التكتل الأوروبي بنحو 113 مليار يورو.
يتوقَّع الأوروبيون أن تُعامَل شركاتهم في الصين مثل معاملة الاتحاد الأوروبي للشركات الصينية، وأن يضمن الاتفاق احترام الملكيّة الفكريّة للشركات الأوروبية، وأن يحظر عمليات النقل القسري للتكنولوجيا، ويفرض قواعد شفافية على المساعدات التي تتلقّاها الشركات العامة الصينية.
توقيع الاتفاق دلالة على قدرة التأثير الكبير والمتنامي لبكين خلف كواليس صناعة السياسة في بروكسل، مستفيدة من تكريس حضورها الأوروبي عبر علاقات ثنائية تجارية واستثمارية مع معظم الدول على امتداد القارة. ولذلك، استخدمت الصين كل ما هو متاح لتنمية العلاقات السياسية مع القوى الرئيسية في أوروبا، من دون إغفال تعزيز العلاقات مع الدول الأوروبية الأقل تأثيراً في صناعة الخيارات الأوروبيّة الاستراتيجية وتطويرها.
رغم ذلك، يمكن أن تعرقل المعارضة السياسية في أوروبا وواشنطن للاتفاق "الاتفاقية التاريخية"، ويحاذر العديد من النواب الأوروبيين التقارب مع بكين، بزعم انتهاكات حقوقية صينية في هونغ كونغ وشمال غرب الصين ضد مسلمي الإيغور.
ما يزال غير مؤكّد ما إذا كان ذلك سيؤدي في إحدى الدول الأعضاء الـ27 إلى نقض الاتفاقية. على المستوى النظري، لا يتطلَّب الأمر سوى استخدام دولة واحدة حقّ النقض ضد الصفقة كي تتوقف، لكن على المستوى العملي قد يكون الأمر أكثر تعقيداً من الاستسهال النظريّ، فالدول الصغيرة والمتوسطة الحجم في الاتحاد الأوروبي قد تتردّد في استخدام قوة الفيتو، لأنها تحتاج إلى دعم برلين وباريس في مسارات لمصالح أخرى، من الدعم الاقتصادي إلى السياسي والأمني.
تلزم الاتفاقية الصّين وأوروبا بتعهّدات ذات فائدة للطرفين ولبقية دول العالم في مجالات العمل والبيئة والتنفيذ الفعال لاتفاقيّة باريس بشأن تغير المناخ، كما وافقت الصّين على بذل جهود متواصلة للتّصديق على الاتفاقيّات الأساسية لمنظّمة العمل الدولية بشأن العمل الجبري.
كما ستخضع مسائل التنمية المستدامة لآلية إنفاذ قوية من قبل لجنة مستقلة من الخبراء بمشاركة المجتمع المدني ضمن الاتفاق، كذلك التزام كلا الجانبين باستكمال المفاوضات بشأن حماية الاستثمار، وتسوية النزاعات في غضون عامين من التصديق على اتفاقية الاستثمار والتعاون، ثم يتمّ تحديث واستبدال صفقات الاستثمار الثنائية للدول الأوروبية مع الصين بالاتفاقية الجديدة.
التزمت الصّين بفتح أسواقها للمستثمرين في الاتحاد الأوروبي أكثر من أيّ وقت مضى، وبضمان معاملة عادلة لشركات الاتحاد الأوروبي، حتى تتمكّن من المنافسة، ما يولد توازناً في العلاقات التجارية بين الطّرفين، ويتيح لمبادئ التنمية المستدامة التي تتمسّك بها بروكسل كأساس للاتفاقيّة أن تمضي قدماً، في ظل إدراك أوروبي بأن الاتفاقية تمنح اقتصاد القارة دفعة كبيرة نحو أكبر الأسواق وأكثرها نمواً في العالم.
الإدارة الأميركية الجديدة السّاعية إلى استعادة التحالف الغربي، اعتبرت أن الاتفاقية ترسّخ الاعتماد الأوروبي الاستراتيجي على الصين، وتخفّف من القدرة التنافسية للمنظومة الليبرالية الغربية، في مقابل حيوية الصين في اختراق الأسواق بقوة قدرتها الإنتاجية، والتي لا يمكن مضاهاتها.
سياسات دونالد ترامب "العدوانية" في السنوات الأربع الآفلة أتاحت لأوروبا أن تنظر إلى مصالحها باستقلال غير مسبوق عن الحليف الأميركي، وبدأت بإيجاد طرق للعمل مع الولايات المتحدة أو من دونها، ما يحرم إدارة جو بايدن الجديدة من إعادة تشكيل التحالف عبر الأطلسي بالسرعة المطلوبة، ويعوق جهودها للتوصل إلى استراتيجية موحّدة لمواجهة الصين في التجارة وغيرها، فشعار "أميركا أولاً" الذي رفعته "الترامبية" وتمسّكت به كمبدأ أساسي، أدى إلى "أميركا لوحدها" في شبه عزلة عن الحلفاء، وإلى "أراجوزية" مواقف سياسية في وجه "الأعداء"، تتأرجح بين السخونة والبرودة، مهدّدة الاستقرار والسّلم الدوليين.
يتلمّس الاتحاد الأوروبيّ في علاقته مع الصّين طريقه إلى حضور جيواقتصادي مستجدّ في آسيا، وإلى تأمين حضور سياسي على طاولة رسم التوازنات الدولية، وإلى إرادة لا بدّ لها من أن تتحرر من السطوة الأميركية حتى تستمرّ.