هل يصبح نهر دجلة بين "فيشخابور - الكرمة" كارثة تنكأ جروح العراقيين؟
منذ العام 2017، أدى نقص المياه في العراق إلى اتخاذ إجراءات مختلفة، مثل حظر زراعة الأرز، ودفع المزارعين إلى هجرة أراضيهم، كما شهدت مدينة البصرة احتجاجات استمرَّت شهوراً بسبب عدم توفر مياه صالحة للشرب.
افتتح سدّ "إليسو" الاصطناعي التركي الضخم في شباط/فبراير 2018، وبدأ العمل على ملء خزانه المائي في 1 حزيران/يونيو 2018. أقيم السدّ على نهر دجلة قرب قرية "إليسو"، وعلى طول الحدود من محافظة "ماردين وشرناق" في تركيا، وهو واحد من 22 سداً ضمن مشروع جنوب شرق الأناضول الذي يهدف إلى توليد الطاقة الهيدروليكية والتحكم بالفيضانات وتخزين المياه. وعند اكتماله، سيوفر طاقة مقدارها 1.200 متر مكعب بسعة 10.4 بليون م3.
انطلقت البدايات عندما بدأ إنشاء السد في العام 2006، وكان يفترض أن يكتمل في العام 2014. وكجزء من المشروع، سيتم إنشاء سد "جزرة" على مجرى النهر بقصد الري والطاقة. ومن آثاره أنه سيغرق حصن كيفا القديم، وسيتطلّب إخلاء السكان المقيمين في المنطقة. ولهذه الأسباب، فقد التمويل الدولي في العام 2008.
يعدّ سد "إليسو" من أكبر السدود المقامة على نهر دجلة، بطول 1820 متراً، وارتفاع 135 متراً، وعرض كيلومترين، وتقدر مساحة حوضه بـ300 كيلومتر مربع، وهو يستوعب في حال امتلائه كلياً بالمياه ما يقارب 20.93 بليون متر مكعّب، ليولد 1200 ميغاواط من الكهرباء، ويصبح رابع أكبر سد في تركيا من حيث الطاقة الإنتاجيّة.
ترفض تركيا اعتبار الفرات ودجلة نهرين يحملان طابعاً دولياً، وتصرّ على أنهما عابران للحدود ومخالفان للقوانين الدولية المنظمة، الأمر الذي يعتبر إحدى أبرز نقاط الخلاف بين سوريا وتركيا، قبل أن يوقّع البلدان اتفاقية العام 1987، وهي اتفاقية مؤقتة بعد صراع أمني شكلت قضية الكرد أحد أبرز عناصره.
في الواقع، وعلى الأرض، تُتخذ المياه سلاحاً لتعطيش المحافظات العربية في العراق وسوريا. وقد عادت الأزمة المائية بين تركيا والعراق إلى الواجهة مجدّداً مع تراجع منسوب المياه في نهري دجلة والفرات، كعادته منذ سنوات، لندرة مياه الأمطار، ومعها تهديدات سلامة الشّعب العراقي عن طريق سد "إليسو" الذي تسبب بانخفاض منسوب نهر الفرات إلى دون النصف عن مستواه الطبيعيّ.
وفيما تماطل تركيا في حلّ الأزمة المعلقة منذ سنوات، توشك المحافظات الجنوبية على التعرّض لكارثة صحّية وبيئية، نتيجة انحسار مياه نهري دجلة والفرات، وخصوصاً نهر الفرات، الّذي بدأ ينقل المواد الملوثة من الأراضي السورية، ما تسبب بارتفاع نسبة التلوث والسمية في المياه الممتدة إلى هذه المحافظات.
وأكَّدت التحليلات سابقاً أن العراق سيواجه شحاً في المياه في حال عدم التوصل إلى اتفاق مع تركيا بشأن الأزمة، وذلك في الوقت الذي تمضي الأخيرة في مشاريعها من دون النظر في سلامة الشعب العراقي وسيادته على أراضيه، مستخدمة سلاح السدود المائية لتعطيش أهالي المحافظات العراقية الجنوبية.
ومنذ العام 2017، أدى نقص المياه في العراق إلى اتخاذ إجراءات مختلفة، مثل حظر زراعة الأرز، ودفع المزارعين إلى هجرة أراضيهم، كما شهدت مدينة البصرة احتجاجات استمرَّت شهوراً بسبب عدم توفر مياه صالحة للشرب. ويعدّ نهرا دجلة والفرات شريان الحياة بالنسبة إلى الكثير من العراقيين، إذ يغذيان الكثير من محطات المياه، وتُستخدم مياههما لريّ الحقول على طول ضفتيهما.
ووسط دراسات توقّعت جفاف نهري دجلة والفرات في العام 2040، بدأ تشغيل سد "إليسو"، ما يهدد الأمن المائي العراقي. وعلى الصعيد السوري، يعاني مليون ونصف مليون مواطن من أهالي الحسكة وقاطني المخيمات المنتشرة في المحافظة وضعاً كارثياً بسبب حرمانهم من مياه الشرب، وسط مخاوف دولية ومحلية من انتشار فيروس كورونا، بعد وقف العمل بمحطّة مياه العلوك في ريف مدينة رأس العين منذ 16 كانون الثاني/يناير الماضي.
وتعدّ هذه المحطة المصدر الوحيد لإمداد مواطني محافظة الحسكة وريفها وبلدات أبو راسين وتل تمر والشدادي ومخيم الهول بمياه الشرب، كما تغذي 3 مخيّمات، أولها مخيم "واشوكاني" الذي يضمّ قرابة 12 ألف نازح فروا من رأس العين بعد الهجوم على مناطقهم، والثاني هو "العريشة" الخاص بنازحي مدينتي دير الزور والرقة، والذي يضم نحو 13 ألفاً، في حين يضم مخيّم "الهول" نحو 62 ألفاً، ويعيش فيه آلاف النازحين السوريين واللاجئين العراقيين.
نعم، هي كارثةٌ تنكأ جروح العراقيين الّذين عانوا تعاقب الأزمات التي ألمت ببلادهم، وتفيض مخاوفهم على النهر العملاق من أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهي أيضاً أزمة خانقة تهزّ العراق جراء انخفاض منسوب مياه نهر دجلة، وتنذر بجفاف يحمل معه شبه كارثة إنسانية.
هذا المشهد بات طاغياً على طول امتداد نهر دجلة، أي منذ دخوله الأراضي العراقية في منطقة "فيشخابور" الحدودية مع تركيا، وصولاً إلى نقطة تقاطعه مع نهر الفرات في منطقة "الكرمة" جنوب العراق. النهر الذي كان بالأمس القريب يهدد بفيضاناته المدن الواقعة على ضفتيه، أصبح اليوم يحتضر جراء المشاريع وإنشاء السدود وتغيير مجاري الأنهار التي تصبّ فيه.
إنها، إذاً، تحذيرات من كارثة الجفاف التي بدأت تلوح، وستتسبّب بمشاكل أمنية واقتصادية واجتماعية في البلاد في حال لم يتمّ حلها بأسرع وقت، فالجفاف الّذي سيمرّ به العراق سيؤدي إلى حدوث تغيير ديموغرافيّ، بسبب هجرة سكان الأهوار (جنوب) والأرياف إلى المدن بحثاً عن المياه.
كما حذّر الخبراء من أنَّ أزمة المياه في هذه المناطق من شأنها أن تفجّر نزاعات عشائرية ومشاكل كثيرة أخرى، فهل أضحى نهر "دجلة" بين "فيشخابور - الكرمة"، حيث يقع سد "إليسو"، كارثة تنكأ جروح العراقيين؟