تونس: صراع دستوري في عناوينه.. سياسي أخلاقي في جوهره
إنه صراع على إعلان الحرب على الفساد أو التحالف معه، باتت فيه كواليس السياسة تشي بأن إبعاد وزيري العدل والداخلية قد يكون مقدمة للتحكم بمآلات قضايا فساد، منها ما يتعلق بقيادة حزب شريك في الائتلاف الحاكم.
تدخل أزمة أداء اليمين الدستورية بعد التعديل الحكومي الذي حظي بثقة مجلس نواب الشعب في تونس أسبوعها الثاني، غير أنّها ما زالت تراوح مكانها، ولم تهب رياح الوساطة بعد باتجاه القصبة أو قرطاج. على العكس من ذلك، تعددت فتاوى قراءة الدستور من معظم الخبراء في البلاد باتجاه ترجيح الكفة لجهة على حساب أخرى، ليجزم البعض بإمكانية اللجوء إلى تفعيل الإجراءات المستحيلة لتجاوز الإشكال، مثلما ذهب الأستاذ عياض بن عاشور، فيما شدد الأستاذ الأمين محفوظ على أنّ رئيس الجمهورية يبقى المؤتمن على احترام الدستور والأجدر بتأويل أحكامه، في غياب محكمة دستورية.
انحدرت الأزمة إلى مستنقع التصعيد السياسي والتلويح بتمرير لائحة لسحب الثقة من رئيس الجمهورية، على غرار ما صرح به النائب من حزب "قلب تونس" عياض اللومي، بدعوى أن الرئيس قيس سعيد برفضه أداء اليمين للوزراء الذين منحهم البرلمان الثقة، يرتكب خطأ جسيماً مخالفاً لأحكام الدستور. والحال أن الائتلاف الحاكم أعلم من غيره بأن الذهاب إلى إجراءات عزل الرئيس غير ممكن في غياب محكمة دستورية، وأن ما يلوّح به يبقى مجرد تصعيد كلامي لا غير.
رئيس الحكومة هشام المشيشي الّذي أوعز إليه الائتلاف الداعم لحكومته بتمرير التعديل الحكومي الذي شمل 11 حقيبة، رغم تحفظ رئيس الجمهورية على بعض الأسماء فيه (لما يحوم حولها من شبهات فساد وتضارب مصالح)، وبعدم الاكتراث إلى تحذيراته من مغبة عدم القبول بأداء اليمين، وجد نفسه اليوم أمام شبه تعطيل لأداء الوزارات، بعد أن راسل رئاسة الجمهورية طالباً استعجال أداء اليمين للوزراء الجدد، من دون أن يجد طلبه صدى في قرطاج، وبات يبحث عن المخارج القانونية بالمجهر، لعلّه يجد طوق نجاة لحكومته المهددة بالسقوط، فراح يستفتي المحكمة الإدارية في قضية جورها دستوري، وهي من اختصاص المحكمة الدستورية التي تعطّل تركيزها أكثر من 6 سنوات جراء حسابات سياسية ضيقة، كما لم يفته أيضاً استدعاء معظم الخبراء في القانون الدستوري في البلاد إلى اجتماع في قصر الحكومة في القصبة، لدراسة الأزمة والمخارج القانونية الممكنة.
لقد أثبتت الأزمة تخبّط الحكومة والائتلاف الحاكم من خلفها، وتمترس الرئيس قيس سعيد في المقابل خلف الالتزام الحرفي بنص الدستور واحترام اليمين التي قطعها عند تولي المهام، كما قال خلال لقائه الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي، لتثبت الوقائع انعدام الحوار بين رأسي السلطة التنفيذية ودخول الأزمة في منعرج الصراع، وهو صراع دستوري في عناوينه، سياسي أخلاقي مبدئي في جوهره، يقف فيه الرئيس قيس سعيد أمام شطحات ائتلاف حاكم بذل كل جهده من أجل إسقاط حكومة إلياس الفخفاخ على خلفية شبهات تضارب مصالح تتعلق برئيسها، ولا يجد في المقابل أي حرج في اقتراح وزراء للتعديل الحكومي، ولو تعلقت بهم شبهات فساد وتضارب مصالح.
إنه صراع على إعلان الحرب على الفساد أو التحالف معه، باتت فيه كواليس السياسة تشي بأن إبعاد وزيري العدل والداخلية قد يكون مقدمة للتحكم بمآلات قضايا فساد، منها ما يتعلق بقيادة حزب شريك في الائتلاف الحاكم.
قد يكون الحلّ في ترك الحيل وسحب الوزراء الذين تحوم حولهم شبهات فساد لحلحلة الأزمة، مثلما اقترح النائب عن حركة "النهضة" سمير ديلو، فالانتصار لتونس ولمسارها الديمقراطي وتغليب المصلحة الوطنية يستدعي أمام الهاوية العودة خطوات إلى الوراء، حتى يتسنّى للبلاد التقدم إلى الأمام وتجاوز أزمة غير مسبوقة في تاريخها، قد تصبح مثالاً للتدريس لطلبة القانون في مختلف جامعات العالم.
أثبتت الأزمة أنَّ النظام السياسي في تونس هجين ويعاني عدة اختلالات قد تكون السبب الرئيسي في تعثر المسار التنموي وتعطّل عجلة الاقتصاد بعد الثورة، وهو منظومة تحتاج إلى مراجعة وتصحيح للعديد من الهنات في فصول الدستور، وخصوصاً في ما يتعلّق بتوزيع الصلاحيات بين رأسي السلطة التنفيذية ومراجعة القانون الانتخابي الذي يفرز بعد كل محطة انتخابية مشهداً برلمانياً مشتتاً غارقاً في صراعاته البينية، عاجزاً عن الحكم والاستقرار والبناء، فضلاً عن ضرورة الإسراع في استكمال المؤسسات، وفي مقدمتها المحكمة الدستورية، من أجل تكريس علو الدستور وإغلاق باب تقديم الفتاوى الدستورية على المقاس وعند الطلب .
إنّ ما ينتظر تونس من تحديات اقتصادية جسيمة، وما يحدق بها من مخاطر أمنية، يستدعي تحلي النخبة السياسية فيها، حكماً ومعارضة، بالمزيد من النضج السياسي والتحلّي بروح المسؤولية، فإخراج البلاد من وضعها الصعب هو مسؤولية وطنية تستدعي القفز على الخلافات الضيّقة والبحث عن التوافقات التي يمكن أن تكون أرضية للبناء وتصحيح المسار.