أميركا بين نزعات الهيمنة وبداية انهيار نظامها السياسي
تحديد ملامح المرحلة المقبلة، سواء ما تعلق منها بالسياسة الداخلية أو الخارجية، يستدعي الوقوف عند أبرز محطات "المرحلة الترامبية"، لفهم نوع التحولات المرتقبة في ضوء ما يشهده الحزبان من اهتزازات
هل سيسير العالم باتجاه التوازن، بما يخدم الأمن والسلم الدوليين، بعد أن تبوأ جو بايدن منصب الرئاسة في الإدارة الأميركية؟ وهل يمكن اعتبار نجاح الحزب الديمقراطي في الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة فرصة لإعادة اللحمة والسلام إلى المجتمع الأميركي، وخصوصاً مع ما شهده انتقال السلطة من أعمال شغب وعنف واحتلال للبيت الأبيض من طرف أنصار الرئيس المنتهية ولايته؟
تساؤلات مشروعة للوقوف على بعض ملامح العالم في مرحلة ما بعد دونالد ترامب، وخصوصاً مع ما ذهب إليه الكثير من المحللين السياسيين الذين رأوا في تبوؤ بايدن سدة الحكم في أميركا فرصة لإحلال السَّلام، وأن ترامب حالة نشاز عابرة فقط في النظام السياسي الأميركي.
تحديد ملامح المرحلة المقبلة، سواء ما تعلق منها بالسياسة الداخلية أو الخارجية، يستدعي الوقوف عند أبرز محطات المرحلة الترامبية، لفهم نوع التحولات المرتقبة في ضوء ما يشهده الحزبان من اهتزازات، وفي ضوء ما يشهده الوضع الداخلي الأميركي من أزمات تعكس نهاية عصر الرخاء الأميركي، المتأثر بدوره ببروز قوى عسكرية رادعة واقتصادات عالمية جديدة تنهي الهيمنة الأميركية على العالم وتفتح المجال لعالم جديد متعدد الأقطاب، يقطع الطريق على العودة إلى الأحادية القطبية، وهو ما يرفضه الحزبان.
إنَّ الاستحقاقات الأخيرة أظهرت انقساماً حاداً في المجتمع الأميركي:
- عمودياً، من خلال التعبيرات المتطرفة لشرائح واسعة من الأميركيين المتأثرين برواسب ثقافة اليانكي والكوبوي الأميركي المتعصب للعرق الأبيض، وارتفاع منسوب الكراهية إزاء الأعراق الأميركية الأخرى، سواء من داخل المجتمع أو من داخل المؤسسات الأمنية الأميركية التي لا تتورع في استعمال العنف المفرط إزاء الأميركيين "الملونين"، في مقابل بروز حركات احتجاجية واسعة مناهضة للتمييز، تعبر عن رغبة مؤكدة في الحق بالكرامة والمساواة.
- أفقياً، من خلال ما تم التعبير عنه من طرف الكثير من القيادات الجمهورية التي دعمت ترامب، وما تزال، رغم هزيمته في الانتخابات التي كانت نتيجة أخطاء تدبيرية لجائحة كورونا وانعكاساتها الاقتصادية التي أجهزت على المكتسبات التي حققها خلال السنوات الأولى لحكمه، وليس للمشروع السياسي المتطرف المنحاز إلى العرق الأبيض الأميركي على حساب باقي الأعراق، ولا لسياساته الخارجية المتمثلة في شعار "أميركا أولاً"، بما استتبع هذا الشعار من قرارات جائرة في حق الشعوب الأخرى.
القاعدة الشعبية التي يتمتع بها هي التي جعلته الرجل القوي في الحزب الجمهوري حتى الساعة، ودفعته إلى التهديد بتأسيس حزب جديد، وهو ما يبدو أقرب إلى الواقع، وخصوصاً مع ما أظهره النظام السياسي الأميركي من عجز عن احتواء التناقضات الحادة داخل المجتمع الذي تمرد على مبادئ الديمقراطية الأميركية، وفاضت تناقضاته على المؤسستين الحزبيتين اللتين تحكمتا في المشهد السياسي لقرون، وخضع من خلالهما المجتمع الأميركي لثنائية حزبية بمرجعية يمينية تتراوح بين اليمين المعتدل الذي يمثله الحزب الديمقراطي واليمين المتطرف الذي يمثله الجمهوريون.
تراجع نمو الاقتصاد الأميركيّ وانعكاساته الاجتماعية كان له وقع الصدى على الحزبين الرئيسيين اللذين شهدا تحولاً مهماً في اتجاه الليبرالية الاجتماعية بالنسبة إلى الديمقراطيين، والليبرالية الجديدة بالنسبة إلى الجمهوريين، الذين استأثر بهم التيار الترامبي كتيار يميني محافظ وكنيسي قد يسير في اتجاه تأسيس حزب خاص به، إن لم يستطع التحكم بزمام الحزب.
كما أن ما يختمر المجتمع الأميركي من تعبيرات اجتماعية مطلبية وهدم لرموز العبودية في الكثير من المدن، في مقابل النزعات اليمينية المتشددة، كان لا بد لها، إذاً، من أن تؤثر في مسار الحزبين، وتساهم في بروز تيارات واصطفافات جديدة: ساندرس بميوله التقدمية، وبايدن بميوله الليبرالية الاجتماعية، وترامب بميوله المحافظة الكنسية، ما يؤشر إلى قرب حدوث تغيرات في النظام السياسي الأميركي القائم دوماً على ثنائية حزبية يمينية إلى نظام قائم على تعددية حزبية أكثر تمثيلاً للمصالح المختلفة للشعب الأميركي.
لكن إن كانت هذه التحولات المجتمعية تضغط على الحزبين في تياراتهما المختلفة للاستجابة للمطالب المختلفة للشعب الأميركي من دون المساس بالمصالح العليا للوبيات المال والاقتصاد المهيمنة على مراكز القرار فيهما، إلا أنها لا تعني في شيء سياستهما الخارجية التي يكثفها مبدأ "أميركا أولاً"، ولن يكون هناك أي تحول مع الإدارة الجديدة لبايدن في اتجاه تبني شعار "أميركا من بين العالم"، وهو ما لاحظناه من خلال القرارات التي اتخذها حتى الساعة، والتي لم تخرج عن الخطوط العريضة العامة للإدارات الأميركية المتعاقبة التي تعتمد استراتيجية توسعية قائمة على مبدأ العصا والجزرة وفق المسلمات التالية:
- حصار الصين وروسيا وإيران عبر ترسانة من العقوبات التي ترمي إلى إضعاف اقتصادات هذه الدول، بما فيها كبح جموح الصين التي أصبحت تهدد الموقع الريادي لأميركا اقتصادياً، وتأجيج النزاعات الاجتماعية داخلها، سواء في منطقة الإيغور أو هونغ كونغ... وقطع الطريق على مشروع إحياء طريق الحرير الذي يربط شرق آسيا بالبحر المتوسط وأوروبا، أو عبر عرقلة مشروع الغاز السائل الروسي الألماني، والعقوبات الجائرة على الصناعة العسكرية الروسية من أجل عرقلة برامجها الرادعة للقوة العسكرية الأميركية، وصنع معارضين على شكل نافلني، أو عبر محاصرة إيران اقتصادياً بمزيد من العقوبات من أجل الحيلولة دون ولوجها نادي الدول النووية، وتخلي إدارة ترامب عن التزاماتها في هذا الملف عبر انسحابها من الاتفاقية الأممية 5+1، والعودة إليه ثانية بشروط جديدة مجحفة لا تختلف عن شروط ترامب، رغم إعلان بايدن استعداده لرفع بعض العقوبات الخاصة ذات الصلة بمحاربة وباء "كوفيد 19".
- التحكّم بمصادر الطاقة/الغاز، وهو المعطى الذي يظهر صعوبات جمة، وخصوصاً أن ما يناهز 40% من مصادرها موجودة في دول تعتبرها أميركا غير صديقة.
- مشروع خارطة الشرق الأوسط الجديد، والذي يهدف إلى تكريس الهيمنة الإسرائيلية والأميركية على المنطقة، عبر تفتيت كياناتها المستقلة وإخضاع دولها عبر استعمال استراتيجية القوة الناعمة بدلاً من القوة الصلبة، من خلال خلق وكلاء محليين واستغلال التعدد المذهبي والطائفي في هذه المجتمعات، من أجل نشر ما تسميه أميركا "الفوضى الخلاقة"، لافتعال محطات مشاغلة لمحور المقاومة، سواء في العراق أو سوريا أو اليمن أو لبنان... رغم تصريحات بايدن بوقف الحرب في اليمن إنقاذاً لماء وجه السعودية، وهي استراتيجية ذكية تعمل على تفادي رد فعل المواطن الأميركي، وهو ما نجحت فيه نسبياً.
وتمحورت السياسة الأميركية الخارجية، بالعودة إلى اتفاقية المناخ والمنظمة العالمية للصحة، والرجوع إلى اتفاقية "ستارت 2" الخاصة بالصواريخ النووية مع روسيا، والحديث عن رفع الحظر على مشروع الغاز الشمالي، وهي كلها قرارات سابقة لم تكن لصالح أميركا وحلفائها بحسب تقدير الإدارة الجديدة.
كما أن الرجوع إلى الاتفاق النووي مع إيران بشروط ترامب المتمثلة في دمج الصواريخ الباليستية والحد من تدخلات إيران في المنطقة، مع إضافة إشراك السعودية كطرف في المفاوضات، يجعل مواقف بايدن قابلة للتسويق وليس للإنجاز، مع العلم أنه لم يقم بإلغاء أي قرار عقابي اقتصادي أو سياسي بحق دول أخرى، كالصين وروسيا وإيران وسوريا وفنزويلا، ولم يتراجع عن قرار الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري، رغم خرقه السافر للقانون الدولي، ولم يتم إغلاق السفارة الأميركية في القدس، والتي أصبحت معطى واقعياً، رغم قرار إعادة فتح البعثات الدبلوماسية مع السلطة الفلسطينية وإعادة دعم برامج الأونروا، وذلك من أجل جر السلطة إلى طاولة المفاوضات ضمن إطار "صفقة القرن" وقطع الطريق على مشروع وحدة الفصائل الفلسطينية.
إنّ أغلب القرارات التي اتخذتها الإدارة الجديدة في سياستها الخارجية تعد متكاملة مع نهج الإدارات السابقة. والتغيرات الوحيدة هي التي تهم الداخل الأميركي والتي لها علاقة بالتحولات الاجتماعية والسياسية التي يشهدها، ولا تعني في شيء السياسة الخارجية القائمة على مبدأ "أميركا أولاً"، وإن ما يتخذ فيها من قرارات تراكمية ينسجم مع شعار "أميركا فوق العالم".
ويتمثل الاختلاف بين الحزبين في تقييم الأضرار الناتجة من أي إجراء، وهو من نستشفه من تصريح الإدارة الحالية في تعليقها على اغتيال الشهيدين الجنرال سليماني وفؤاد المهندس، حين اعتبرت أنها لا تعارض العملية من حيث المبدأ، بقدر ما لا تتفق مع الأضرار الناجمة عنها. وبالتالي، ما لم تقتنع أميركا بأنها من بقية العالم، فإن النهج الأميركي في تدبير سياساته الخارجية لن يحيد عن الخط الصدامي مع كل من تعتبرهم يسعون إلى الحد من هيمنتها. وربما سيشهد العالم مستقبلاً صدامات مباشرة، ولو محدودة، بينها وبين قوى أخرى عالمية أو صاعدة، ويبدو أنّ منطقة الشرق الأوسط وشرق أسيا أكثر تأهيلاً لمثل هذه المواجهات.