ثورة الشّاه البيضاء وأحداث العام 1963 في إيران
من أهم "الإصلاحات" التي طرحتها ثورة الشاه البيضاء كان بيع المؤسسات والشركات الصناعية العامة للقطاع الخاص، تحت عنوان تحويل عوائد البيع والأرباح لصالح العمال، ولكن الذين استفادوا من ذلك بالفعل كانوا قلة من كبار التجار والنافذين، لا العمال.
في بداية كانون الثاني/يناير 1963، أعلن شاه إيران ما أسماه "الثورة البيضاء"، التي كانت تتكون من مجموعة "إصلاحات" كبيرة تشمل النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في البلد، والهدف المعلن منها هو النهوض بإيران في شتى المجالات. وقد طرحها للاستفتاء الشعبي، وحدد لها موعداً يصادف 26 من الشهر نفسه.
في الحقيقة، لجأ الشاه بخبثٍ شديد، وعن قصد، إلى خلط الأوراق وخلق حالة من البلبلة والتيه أمام المواطن العادي، لجعْلِه، مع جُرعة بروباغندا إعلامية مكثفة، يصوت لصالح "الإصلاحات" التي كان وراءها ما وراءها! فقانون "الإصلاح الزراعي" الذي طرحه كان في الواقع مشروعاً أميركياً بامتياز، بل يكاد يكون المشروع ذاته الذي طبقته أميركا في الدول التي احتلتها بعد الحرب العالمية الثانية (اليابان والفيليبين وكوريا)، على الرغم من كونه يحمل عنواناً كبيراً هو محاربة الإقطاع.
وقد أدى في النهاية بالفعل إلى تخريب حقيقي في القطاع الزراعي في إيران عن طريق هجرة ملايين الريفيين والفلاحين من قراهم إلى المدن الكبرى وانتشارهم فيها بشكل عشوائي كطبقة مهمّشة ومسخّرة لخدمة البرجوازية المدنية.
ومن أهم "الإصلاحات" التي طرحتها ثورة الشاه البيضاء كان بيع المؤسسات والشركات الصناعية العامة للقطاع الخاص، تحت عنوان تحويل عوائد البيع والأرباح لصالح العمال، ولكن الذين استفادوا من ذلك بالفعل كانوا قلة من كبار التجار والنافذين، لا العمال.
وفي المجال الاجتماعي/ السياسي، كان تغيير قانون انتخابات المجالس المحلية الذي تضمّن منح المرأة حق التصويت، إلى جانب إلغاء إلزامية القَسَم على القرآن الكريم للفائزين. كما طرحت الإصلاحات المقترحة إلزامية الخدمة العسكرية للشابات، وأيضاً إلزامية التعليم المدرسي في عموم البلد (وفي ثنايا الإصلاحات وتفاصيلها، كان هناك قانون "الحصانة القضائية" للخبراء والمستشارين الأميركيين في إيران).
وقد طرح الشاه للاستفتاء إصلاحاته هذه كحزمة واحدة يكون التصويت عليها بنعم أو لا. وكان ذلك مقصوداً ومدروساً بعناية، بحيث يظهر من يعارض الإصلاحات (وخصوصاً رجال الدين) كرجعيّ متخلف، فالإصلاحات، كما هو ظاهر، كانت تتضمن بنوداً إيجابية حقاً وتقدمية، ولا يمكن الاختلاف عليها، ولكن من يعارض بقية البنود "المُريبة" سيبدو كأنه يعارض منح المرأة حق التصويت والتعليم الإلزامي وفكرة محاربة الإقطاع!
وقد أشار الإمام الخميني في خطابه الناريّ في المسجد الأعظم في قم إلى تهمة "الرجعية" التي يوجهها الشاه وإعلامه، فقال: "يتهموننا بالرجعية ويصفوننا بأننا ضد الرقيّ والتقدم، وأننا ندعو لركوب الحمير في التنقل والسفر، وأننا نريد التقهقر إلى القرون الوسطى... إننا نعارض الاعتداء على الأفراد والأعراض والحريات، ونعارض التسلط والقمع والاستبداد، هل يعني ذلك أننا رجعيون؟".
وخاطب الشاهَ قائلاً: "تعال لنتحاور ولنناقشك ونثبت لك أن لا رجعيّة في الإسلام. نحن نقول: لا تكنْ عبداً مملوكاً للأجانب. نحن نريد لك ولكل فرد في المجتمع العزة والكرامة، ونريدك سيداً محافظاً على استقلالك، مترفعاً عن الذلّ، لا تمدّ يدك إلى أميركا وغيرها، فإن كانت هذه المعارضة رجعية، فنحن رجعيون حقاً".
كان الإمام الخميني في ذلك الوقت في بداية الستينيات من عمره، ورغم وجود رجال دين أكبر منه سناً ومكانة علمية، فإنه تزعّم بالفعل حركة المعارضة لنظام الشاه، وكان الصوت الأعلى والأبرز في الهجوم عليه وعلى إصلاحاته المشبوهة. كان قاسياً في عباراته وكلامه عن الشاه، وجريئاً في تحريض الناس إلى حدّ غير مسبوق، ودعا إلى إلغاء احتفالات عيد النوروز في تلك السنة، بل وأعلن الحداد!
نجح الخميني في خلق رأي عام معارض لخطط الشاه، ليس فقط في قم، بل في طهران ذاتها وفي بقية أنحاء البلاد. شعر الشاه بخطورة معارضة الخميني، وبأنه، ومعه جوقة إعلامِه ومنافقيه، صار يخسر أمامه، فقرَّر أن يستخدم كل رصيده "الإمبراطوري" لإنقاذ الموقف، وخصوصاً مع اقتراب الموعد المحدد للاستفتاء.
أعلن الشاه أنه سوف يقوم بنفسه بزيارة مدينة قم ليلتقي علماءها وناسها. طبعاً، انهمكت أجهزة الدولة في الإعداد لاستقبال مهيبٍ في قم يليق بمقام الشاهنشاه الرفيع، ولكن الزيارة فشلت، ولم يلقَ الشاه استقبالاً يناسب غرَضه، فثار غضبه الشديد.
شعر الشاه بأن الإمام الخميني أفسد عليه زيارته بخطبهِ التي يلقيها من منبر "المدرسة الفيضية" في قم، فما كان منه إلا أن أرسل إليها المدرّعات مع أوامر منه باستخدام البطش والهمجية في التعامل مع رجال الدين والطلاب الذين تعرضوا للضرب المبرح بالعصيّ والسكاكين على يد الجنود الذين قاموا بتحطيم المدرسة بما فيها وإحراق كتبها، وذلك قبل يومين فقط من موعد الاستفتاء.
انتقامُ الشاه بتلك الطريقة وانتهاكُ حرمة الحوزات الدينية لم يكن أمراً مألوفاً ومقبولاً، وأدى إلى زيادة التأييد للخميني وسط الناس الذين قام الشاه بتزييف إرادتهم، وأعلن حصول استفتائه على نسبة تأييد ٍكاسحة (99%)!
في 3-6-1963، في ذكرى عاشوراء، ألقى الإمام الخميني خطبة ثورية عظيمة من منبر المدرسة الفيضية نفسها في قم، وتكلم فيها بشكل لم يسبق له نظير في حدّته وقوته. في تلك الظروف، وفي إيران الشاهنشاهيّة، كان الخميني يمارس فعلاً فدائياً استشهادياً بخطبته تلك. وجّه الخميني كلامَه إلى الشاه، وقال: "استمعْ إلى نصحي! استمعْ إلى علماء الإسلام الأبرار الذين تهمّهم مصالح هذا الشعب وهذا البلد بشكل حقيقي. وحذار أن تستمع إلى الإسرائيليين، فإن إسرائيل لن تنفعك! استمعْ أيها البائس العليل! لقد عشتَ حتى الآن خمسة وأربعين عاماً في هذه الدنيا، فلتتوقف هنيهة، ولتتأمل ماذا قدمتَ لبلدك، وليكنْ مصيرُ أبيك عبرة أمام ناظريك".
وأضاف الخميني: "أية ثورة بيضاء هذه التي جئتَ بها؟! ولِم هذا الخداع والتضليل المتعمّدان؟! ولمَ تهدد الشعبَ وتتوعده؟! لقد علمتُ اليوم أن رجال الأمن اقتادوا مجموعة من الخطباء والوعّاظ إلى دائرة الأمن وهددوهم وحذروهم من التطرق في خطبهم إلى أمور ثلاثة، وهي التشنيع بالشاه ومحاربته، ومهاجمة إسرائيل، والإشارة إلى أن الخطر محدق بالإسلام، فلماذا يحذروننا من مهاجمة إسرائيل؟ هل الشاه هو إسرائيل في نظر أجهزة الأمن؟ هل الشاه، في نظر هذه الأجهزة، يهودي وصهيوني؟! إنني أحذرك أيها الملك من مغبة هذه الأعمال والأساليب...".
في أعقاب هذه الخطبة، وإثر كلام الخميني الذي وصل إلى العاصمة، خرجت في طهران تظاهرة ضخمة من 100 ألف شخص، واتجهت نحو قصر الشاه وهي تهتف "الموت للدكتاتور، الموت للشاه، الموت للعدو المتعطش للدماء".
قامت أجهزة الأمن في اليوم التالي بالهجوم على منزل الإمام الخميني في قم واعتقلته. ولما ذاع الخبر، اندلعت أقوى موجة من التظاهرات الجماهيرية التي شهدتها إيران منذ فترة طويلة، وهتفت ضد الشاه وتأييداً للخميني، وانتشرت من مدينة إلى أخرى، طهران وشيراز ومشهد ووارمين، إضافةً إلى قم طبعاً.
حصلت مواجهات عنيفة ودامية بين المتظاهرين المدنيين الغاضبين من جهة، والدبابات ورجال الشرطة والمظلات والسافاك من جهة أخرى. لا تُعرف أعداد القتلى على وجه الدقة، لكن لا شك في أن عدداً كبيراً من الضحايا سقطوا. تحدثت الحكومة عن مقتل 380 شخصاً، بينما وصلت تقديرات المعارضة إلى 15 ألف شهيد!
بقي الإمام الخميني في السجن حوالى 10 أشهر، ليطلق سراحه في نيسان/أبريل 1944. توقع الشاه أنَّ فترة السجن من شأنها "تهدئة" الخميني ودفعه إلى إعادة النظر في مواقفه، وهو ما يفسر ربما إرساله من يخبر الإمامَ برغبته في لقائه.
كان الشاه في الواقع يعرض "الصلح" على الإمام الخميني ويدعوه إلى فتح صفحة جديدة، ولكنّ الإمامَ رفض! وقال: "لقد أخبروني بأنَّني إذا قابلتُ الشاه، فإن ذلك سيكون كفيلاً بحل كل شيء، لكنهم يعلمون جيداً أن الأمة كلها رفضت الشاه. لقد أشاعوا بأن صدر الشاه بسعة البحر، وبإمكانه أن يضم كل من يود العودة إليه، لكنه بحرٌ مسمّم، وأي شخص يغمسُ فيه، حتى مجرد طرف إصبعه، فسوف يسري فيه السم. لقد حاولوا أن يقنعوني بمقابلة الشاه حتى يسمّموا سمعتي".
استأنف الإمام الخميني نشاطه الثوري عن طريق الخطابة في قم، كما كان قبل السجن. لم يكن ذلك غريباً على الرجل الذي لم يخاطب الشاه بلقبه "صاحب الجلالة" قط منذ أن بدأ نشاطه السياسي، بل إنه وسّع دائرة هجومه لتشمل من أسماهم "فقهاء السوء ووعاظ السلاطين"، فقال: "هؤلاء ليسوا فقهاء، ويجب فضحهم، لأنهم أعداء الإسلام. على المجتمع أن ينبذهم، ففي نبذهم واحتقارهم نصرٌ للإسلام ولقضية المسلمين"، وزاد على ذلك بأن أفتى بحرمة التقيّة (المعترف بها في التراث الفقهي الشيعي)، وقال: "التقية حرامٌ وإظهارُ الحقائق واجب، ولو بلغ ما بلغ!".
وخاطب طلابه في المدرسة الفيضية قائلاً: "لستُ من المعممين الذين يرغبون دوماً في القعود والانشغال بالتسبيح، كما أني لستُ قسيساً أقوم أيام الأحد ببعض الطقوس وأمضي بقية الأيام راهباً لا تعنيني شؤون الناس"، وأضاف: "من العار أن نسكت على هذه الأوضاع ونبدي جُبناً أمام الظالمين المارقين. انهضوا للثورة والجهاد والإصلاح، فنحن لا نريد الحياة في ظل المجرمين".
لم يعد الشاه قادراً على الاحتمال أكثر. قامت أجهزة الأمن بإلقاء القبض على الخميني من جديد، ولكن مشكلة الشاه لم تحلّ، فماذا بعد؟ تداول أركان نظام الشاه في ما بينهم، فكان مدير المخابرات (السافاك) نعمت الله ناصري ورئيس الوزراء أسد الله عَلَم من أنصار فكرة إعدام الخميني، وحاولوا إقناع الشاه بها، ولكنه تردد خشية العواقب، ولأنه لم يردْ أن يزيد الأمور سوءاً في البلد، ولسببٍ آخر وجيه، هو المكانة الدينية للخميني الذي كان يحمل لقب "آية الله"، بل إنه في ذلك الوقت ارتقى إلى رتبة "آية الله العظمى" بعد إجازة رسالته "تحرير الوسيلة". وفي إيران، البلد الشيعي، كل من يصل إلى مرتبة "آية الله العظمى" لا يجوز إعدامُه لأي سبب من الأسباب!
هكذا إذاً كان قرار النفي. اتصل الشاه بأصدقائه في تركيا طالباً منهم مساعدته في "التخلص" من الخميني، فوافقوا. وفي 3-11-1964، أركبوه طائرة هبطت به في أنقره، واعتقد الشاه أنّ همّه قد انزاح عنه، لأن الإمامَ، البعيدَ عن إيران، لن يجد بعد الآن من يحرّضه ومن يصغي إليه، ولكنّ الشاه كان واهماً، والإعصار كان قادماً.