ما بين تجربتين
في شوارع حلب، بدت الحياة مختلفة. كل شيء مختلف عما كان عليه قبل الحرب. الشوارع شبه خالية من السيارات إلا ما ندر. بدت آثار المعارك واضحة على جميع الأبنية.
في شهر كانون الأول/ديسمبر 2014، كنت في طريقي إلى مدينة حلب، ناقلاً مكان عملي من مكتب "الميادين" في طهران، للعمل كمراسل حربي للقناة ذاتها في حلب. قبل مغادرتي طهران متجهاً إلى بيروت، ومنها إلى دمشق، استوقفني عدد من الزملاء الذين أبدوا استغرابهم من قراري بين محذر وقلق، وآخر ظنّ أنني أختار طريق الموت في مدينة وصفت لسنوات بأنها أخطر مدينة في العالم. رغبتي التي كانت تسيطر عليَّ حينها للعمل في حلب جعلتني أضع كل التحذيرات جانباً، وأن أبتسم عندما أسمعها. لم تكن مقنعة أبداً أمام ما أراه واجباً إنسانياً وأخلاقياً ووطنياً تجاه مدينتي.
وصلت إلى دمشق في العاشر من كانون الأول/ديسمبر. استعجلت الخطى إلى حلب. لم أمكث في العاصمة، وأبديت رغبتي في التحرك فوراً إلى حلب. حينها، أخبرتني مديرة المكتب، الزميلة ديمة ناصيف، بأن عليَّ مراجعة الوزارة لاستكمال بعض الأوراق المطلوبة للاعتماد. اتجهت إلى وزارة الإعلام، وأتممت ما طلب مني، لكن لم يكن بالإمكان التحرك إلى حلب في ذلك اليوم.
لم تكن السكة إلى حلب مفتوحة على مدار الساعة. الطريق تفتح أمام العابرين لساعات تبدأ عند الساعة التاسعة صباحاً وتنتهي عند الثانية ظهراً. أخبرني السائق يومها بأن الطريق غير آمنة، وفيها الكثير من الفلتان الأمني، نتيجة قربها من مناطق سيطرة "داعش" في بادية حماة الشرقية، إضافة إلى سيطرة جبهة "النصرة" حينها في ريف إدلب الجنوبي الشرقي. اضطررت إلى قضاء ليلتي في دمشق، واتفقت مع سائق السيارة على أن يتواجد الساعة الخامسة فجراً أمام الفندق.
فجر 11 كانون الأول/ديسمبر، تحركت إلى حلب. كانت الطريق شبه خالية. من دمشق إلى حمص، يمكنك أن تعرف آثار الحرب في البلد بشكل كامل. يمكن لأي عابر عبر الطريق أن يلاحظ أنه سيقطع كيلومترات عدة من دون أن يرى سيارة تعبر إلى جانبه. قبل وصولنا إلى حمص بقليل، انعطف السائق إلى اليمين ليدخل طريقاً فرعية مختلفة عما عرفته عن طريق حلب قبل بداية الحرب.
انعطفت السيارة إلى ريف حمص الشرقي، ومنه إلى ريف حماة الشرقي أيضاً، واتجهت إلى طريق الرقة. بدا كل شيء مختلفاً، لكن الرغبة في الوصول إلى حلب كانت تنسيني التفكير في تفاصيل الطريق الجديد. وصلنا إلى مشارف المدينة بعد أن قطعنا طريق أثريا خناصر مروراً بالسفيرة. ومن منطقة الراموسة دخلنا إلى حلب. قبل الوصول إلى أوتوستراد صلاح الدين، كان طلب السائق غريباً، عندما أوعز إلينا أن نخفض رؤوسنا في منطقة الراموسة، قائلاً: "أخفضوا رؤوسكم. لا تقلقوا، سنسرع قليلاً لكي لا يتمكن القناص من إصابتنا. يا رب"، وأخذت سرعة سيارته تتزايد بشكل جنوني إلى أن قطعنا جسر الراموسة.
في شوارع حلب، بدت الحياة مختلفة. كل شيء مختلف عما كان عليه قبل الحرب. الشوارع شبه خالية من السيارات إلا ما ندر. بدت آثار المعارك واضحة على جميع الأبنية. المنطقة شهدت معارك ضارية إلى أن رسمت الحرب معالم الصراع فيها.
بعد 3 أيام من وصولي إلى حلب، تلقيت اتصالاً من شخص قال إنه من الإعلام. أخبرني بأن إحدى المناطق تحررت، وإن ثمة من يمكنه أن يرافقني لإعداد تقرير عن المنطقة والمعارك التي شهدتها إذا كان لدي رغبة في ذلك. كان الأمر ميسراً رغم خطورته. أتممت إعداد التقرير، وبات جاهزاً للإرسال إلى غرفة الأخبار. لم أكن أتوقع للحظة أن تقريراً لا تتجاوز مدته الزمنية دقيقتين سيحتاج إلى قرابة 6 ساعات لإرساله. حاولنا التحايل من خلال التخفيف من حجم المادة المرسلة أو التخفيف من جودة الصورة أو العمل على فصل جميع الأجهزة المتصلة بالإنترنت، لعلنا نتمكّن من إرسال التقرير في فترة زمنية أقل، ولكن لم تنجح السبل التي اتّبعناها، وبقي التقرير بحاجة إلى 4 ساعات.
أذكر أني تركت زميلي خالد يتابع إرسال التقرير، وكنت أتصل به من وقت إلى آخر لأطمئن. كانت الأمور تسير ببطء والدقائق تمر. بعد ساعتين، أخبرني خالد أنه بدأ مجدداً من لحظة الصفر. شعرت ببركان من الغضب. سألته عن السبب، فقال: "توقف الإنترنت أثناء الإرسال. لذلك، أجبرت على أن أعيد الإرسال مجدداً".
بعد 8 ساعات، أبلغني بأن التقرير وصل إلى بيروت. فكرت للحظة في أنني لو أنني استقللت سيارة وتحركت من حلب إلى بيروت عبر طريق خناصر، ربما كان بإمكاني أن أوصل التقرير في فترة زمنية أقل من المدة التي تطلبها إرساله عبر الإنترنت. لم يكن بحوزتنا وسيلة أخرى لإرساله. ولعل المرحلة الأصعب كانت مع سيطرة مسلّحي ما عرف حينها بجيش "الفتح" بقيادة جبهة "النصرة" على إدلب. انقطعت كل الاتصالات عن مدينة حلب، حتى الاتصال الهاتفي، ما اضطرني حينها إلى أن أتجه إلى دمشق لأرسل مجموعة من التقارير كنت قد عملت عليها خلال أسبوعين.
كانت الظروف في تلك المرحلة أسوأ، لكن المجتمع كان أكثر تماسكاً. من المؤكد أن الشح الشديد في المحروقات، وأزمة المياه الأكثر سوءاً، والاصطفاف لساعات طويلة للحصول على القليل من المياه للشرب أو الغسيل، إضافةً إلى مشكلتي الخبز والكهرباء، كلّها أزمات لم يعد سكان المدينة يذكرونها، لأن الانقطاع الدائم للكهرباء أنساهم وجودها أصلاً. وإضافة إلى ما سبق، كانت المخاطر الأمنية والعسكرية وفقدان سوق العمل أكثر قساوة مما عليه اليوم، لكن من المؤكد أن التماسك المجتمعي عامل ثبات وطمأنينة، إلى درجة أن الشعور بالأمان لم يكن للحظة متوفراً حينها.
غبت عن العمل في حلب بعد تحريرها بأشهر منذ آذار/مارس 2017 إلى كانون الثاني/يناير 2021. عندما عدت للعمل فيها، لم يكن الاندفاع أقل مما كان عليه نهاية العام 2014. ولعل القدر كتب لي أن أمشي المسير السابق ذاته من بيروت إلى دمشق، ثم البقاء في دمشق لاستكمال الأوراق المطلوبة للاعتماد. انتهيت من الأوراق عند الساعة الثالثة عصراً. اتصلت بسائق سيارة لكي أحجز مقعداً إلى حلب. وافق وطلب مني أن أكون جاهزاً بعد نصف ساعة.
لم يكن الأمر كما كان عليه في العام 2014. يمكن أن نعبر الطريق في أي وقت نريده، ما يعكس حالة من الاستقرار الأمني والعسكري على الطريق إلى حلب. تحركت السيارة عند الساعة الرابعة عصراً. يبدو كل شيء مختلفاً عن تجربتي الأولى التي تذكرت تفاصيلها. راقبت بدقة عدد السيارات على الطريق. العدد لا يمكن أن أحصيه. الحالة تذكرني بطريق حلب دمشق، بل بالحرب. لم تنحرف السيارة عن الطريق الدولي. تابع السائق المسير متجهاً إلى حلب من حماة إلى ريف إدلب ثم إليها. طريق خناصر بات من عداد الماضي.
لا يوجد تهديد للطريق هنا، فتنظيم "داعش" انتهى، ومسلحو جبهة "النصرة" وغيرها أكثر ضعفاً من أن يشكلوا تهديداً للطرق. عبرنا ريف إدلب عند الساعة السابعة مساء. السير يبدو اعتيادياً. وصلت إلى حلب عند السابعة والنصف مساء. المدة الزمنية من دمشق إلى حلب لم تستغرق أكثر من 3 ساعات ونصف الساعة، وهي تعادل أقل من نصف المدة الزمنية في طريق خناصر.
دخلت إلى حلب وأنا أتذكر الماضي القريب. لم يفكر السائق في تنبيهي من قناص أو قذائف هاون. لم أشعر بخطر قريب أو تهديد ما قد يطرأ فجأة على المشهد. يبدو كل شيء مختلفاً. سرعان ما بدا مشهداً ثابتاً لم يتغير. اختناقات على محطات الوقود وشح في المحروقات. لعله المشهد الثابت هنا منذ العام 2014.
بقي مشهد أزمة المحروقات صامداً، رغم أنّ حلب أبعدت عنها أي تهديد عسكري على أحيائها السكنية، فريفها بات محرراً بشكل شبه كامل، "إذا استثنينا جزءاً من الريف الشمالي الخاضع لسيطرة جماعات مسلحة تابعة لتركيا". في حلب، تسمع الكثير عن أزمة الكهرباء، فالتيار الكهربائي في أحسن حالاته لا يستمرّ أكثر 4 ساعات يومياً. يبدو الوضع مختلفاً عن سنين الحرب القاسية، لكنه قاسٍ أيضاً، فالواقع الحالي خيّب آمال الكثيرين الذين كانوا ينتظرون تغيراً كلياً لحال المدينة بعد تحريرها.
لم تحقق حلب القفزة الخارقة التي كان أهلها وسكانها ينتظرونها، لكن لا شك في أنها لم تعد كما كانت في العام 2014. حدّت العقوبات الدولية من قدرة الدولة السورية على مساندة حلب للنهوض، كما يشتكي أهلها سوء إدارة في مدينتهم. القاسي في المشهد اليوم هو الشعور باليأس الذي يحكم الواقع.
يبدو المجتمع متعباً، وتبدو الوجوه وكأنها بدأت تفقد ثقتها بنفسها وبقدرتها في ظل الأزمات المتتالية التي مر بها السوريون. من العقوبات الدّولية وما ترتّب عليها من آثار سلبية في الاقتصاد والقدرة الشرائية للفرد، إلى حرمان بلادهم من مواردها، "بسبب احتلال أميركي لمنطقة شرق الفرات" التي كانوا يعولون عليها للنهوض مجدداً، إلى فساد إداري يتحدث الجميع عنه هنا، تأتي جائحة كورونا لتزيد الطين بلة. جميعها عوامل يمكن أن تلمس انعكاساتها بسهولة في شوارع حلب وعندما تحدث أهلها.
بصفتي صحافياً، يبدو المشهد مختلفاً تماماً عما كان عليه في سنوات الحرب القاسية. تكبّلك الكثير من الأطر القانونية التي تحدّ تحركك السريع لتطبيق أفكارك وتحويلها إلى تقارير عملية على الأرض. تفاجأت بعدد الموافقات المطلوبة لكي أتمكن من إعداد تقرير عن واقع ما، "خدمياً كان أو عسكرياً"، على عكس ما كان عليه الواقع في العام 2014.
يبدو المشهد اليوم أمامي أكثر تعقيداً. بعد اجتماعي في مديرية الإعلام مع بعض الزملاء الصحافيين الذين كانوا معي في سنوات الحرب، كانت الكلمة المشتركة التي سمعتها من الجميع "انسَ الماضي. الأمور صعبة، والعمل بطيء جداً".
بطء العمل المكبّل بالتصاريح والموافقات يهوّن بعضه التحسّن الملموس في واقع الإنترنت، فقد تمكّنت من إجراء أول تواصل مع بيروت عبر خدمة "سكايب" لفترة تجاوزت 7 دقائق بشكل متواصل ومن دون أي انقطاع، ما منحني تفاؤلاً بأن الأمر يبدو أكثر سلاسة من الناحية التقنية مما كان عليه في العام 2014، لكن لا شكّ في أن ذلك سيدخلني في تحدّ من نوع جديد، بحثاً عن عمل صحافي في مدينة لطالما شكل العمل فيها حلماً بالنسبة إليّ، رغم التساؤلات التي سمعتها أيضاً من زملائي قبل عودتي مجدداً إليها، والتي تركزت جميعها حول عبارة مفادها: لماذا تريد العودة؟ وماذا بقي لكي تنجزه في حلب؟
بقي الكثير... فسوريا تستحقّ منا الكثير.