مطار الموصل والأهمية الجيواستراتيجية في الصراع الفرنسي - التركي
كان تقديم الشركة الفرنسية لعرضها برفقة شريك محلّي وُصف بكونه "مقرباً من دوائر السلطة في بغداد" عاملاً آخر منحها الفوز على المنافس التركي.
جاءت الموصل في العام 1926 ضمن حدود المملكة العراقيّة الناشئة منذ العام 1921، وصارت عاصمة لمحافظة نينوى. ومنذ عشرينيات القرن العشرين وحتى اليوم، أصبحت تتمتّع مع كركوك بثروة نفطية كبيرة.
بعدها، حضر مطار الموصل (إياتا: OSB، إيكاو: ORBM) كمطار دوليّ يقع في عاصمة نينوى، ثاني أكبر مدينة في العراق بعد العاصمة بغداد، وهو يبعد عن وسط مدينة الموصل حوالى 5 كم، ويرجع تاريخه إلى عام 1920، إذ قام بإنشائه سلاح الجو الملكي البريطاني أثناء فترة الاحتلال البريطاني للعراق، وتحوَّل من مطار عسكري إلى مطار مدنيّ في العام 1922.
في العصر الحديث، بقي المطار من دون أيّ حركة ملاحية تذكر، وذلك بسبب حظر الطيران الَّذي كان مفروضاً على العراق ضمن عقوبات الأمم المتحدة بعد الغزو العراقي للكويت في العام 1990، إلى أن قام الجيش الأميركي بغزو العراق في العام 2003، وأصبح المطار قاعدة جوية عسكرية أميركية. وبعد تسليمه إلى الحكومة العراقية، أعيد تطويره بشكل جذري ليطابق المعايير الدولية للسلامة، وأعيد افتتاحه في نهاية العام 2008، وهو يعتبر أحد مقرات شركة الخطوط الجوية العراقية.
مع مطلع العام 2021، حضر الأمين العام لمجلس الوزراء حميد الغزي خلال حفل توقيع مذكّرة التفاهم بين سلطة الطيران المدني وشركة "ADP-I"، وإن كانت البدايات قد أتت في أواخر العام 2020، حين منحت الحكومة العراقية المركزية في بغداد عقد تجديد مطار الموصل المدمّر منذ سقوط المدينة بين العامين 2014 و2017 للشركة الفرنسية العملاقة "مطارات باريس - أيرو بورتس دو باريس".
وقد جاء الانتصار الفرنسي على حساب تحالف من شركتين تركيتين تعملان في مجال الإنشاءات، هما "كورك" و"قاليون"، كانتا قد قدّمتا عرضاً للحكومة العراقية لإعادة مطار الموصل الواقع غرب المدينة إلى الحياة في العام 2019.
لقد سرت موجة من التفاؤل في الدوائر التركية بفوزهما بالعقد، وخصوصاً بعد زيارة الكاظمي إلى أنقرة في منتصف كانون الأول/ ديسمبر الماضي، ولقائه إردوغان لبحث التعاون بين البلدين، ثم سرعان ما تبدّد ذلك التفاؤل بعد ذيوع نبأ التعاقد العراقي مع "مطارات باريس"، وتأكيده من قبل السفير التركي في بغداد فاتح يلدز، في تغريدة نشرها في حسابه الشخصي في موقع "تويتر" يوم 8 كانون الثاني/يناير الجاري.
هنا، وعلى الفور، ربطت التحليلات التركية بين فشل "كورك - قاليون" والصراعات المحتدمة مؤخراً بين تركيا وفرنسا حول عدة ملفات في منطقة الشرق الأوسط وجنوب القوقاز، أبرزها الاعتراض الفرنسي على التنقيب التركي عن الغاز الطبيعي في منطقة شرق المتوسط، وكذلك دعم فرنسا لأرمينيا في حرب ناغورنو كاراباخ ضد أذربيجان المدعومة من تركيا.
هنا، لنا أن نتوقّع من الحكومة الفرنسية ممارسة الضغط على نظيرتها العراقية لقبول عرض "مطارات باريس" بدلاً من العرض التركي، لخلق مساحة جديدة للضغط على أنقرة، وذلك في العراق هذه المرة، بسبب الأهمية الاستراتيجية القصوى للأخير بالنسبة إلى تركيا. تلك الرؤية، جعلت من التنافس على مطار الموصل، توسعة فرنسية لجغرافيا الصراع مع تركيا.
في قراءة التقرير الحديث الّذي نشره موقع "المونيتور" للمحلّل فهيم تشتكين، والمرفق ببيانات مهمّة عن فوارق أساسية بين العرضين الفرنسي والتركي بشأن مطار الموصل منحت الأفضلية في النهاية للأول، إضافةً إلى الأزمات السياسية بين تركيا والعراق بشأن ملفات بالغة الحساسية، مثل الكرد والمياه والرؤية التركية المؤدلجة بخصوص الموصل نفسها... كلّ ذلك يدفع إلى تحويل قراءة إخفاق "كورك - قاليون" من أرضية النزاعات "التركية - الفرنسية" إلى أرضية موازية ترتبط بالعلاقات التركية - العراقية المضطربة.
في الواقع، اجتمعت على الأرض مجموعة من العوامل لترجّح كفّة العرض الفرنسي على نظيره التركي، منها فوارق الخبرات التي تصبّ في صالح "مطارات باريس"، إذ تعمل الشركة الفرنسية طوال العقد الأخير في تطوير البنية التحتية للطيران المدني في العراق، مشرفة خلال ذلك على تجديد مطارات بغداد والبصرة، إضافةً إلى إنشاء مطار "دهوك" شمال العراق. كما ساهمت مع شركة بريطانية في تصميم مطار وسط الفرات على بعد 40 كيلومتراً شمال غرب النجف.
في مقابل تلك الخبرة الفرنسيّة العريضة، تفتقد شركة "كورك" التركية التي تعمل بكثافة في مناطق كردستان العراق إلى خبرات شبيهة في المجال نفسه، وهو ما دفع القائمين عليها إلى التحالف مع شركة إنشاءات تركية أخرى هي "قاليون"، وهي واحدة من 3 شركاء فازوا بعقد تأسيس مطار إسطنبول الجديد.
كذلك، كان تقديم الشركة الفرنسية لعرضها برفقة شريك محلّي وُصف بكونه "مقرباً من دوائر السلطة في بغداد" عاملاً آخر منحها الفوز على المنافس التركي. ويؤكّد تقرير "المونيتور" فهم "مطارات باريس" لواقع الاستثمار في العراق، حيث الترحيب في الأغلب بالمستثمرين الأجانب الذين يقبلون التعاون مع شركاء محليين عراقيين أكثر من العمل مع المستثمرين الأجانب الذين يرغبون في العمل في المشروعات المستهدفة بصورة منفردة، وهو ما عجز التحالف التركي عن إدراكه، كما يبدو.
في النهاية، يمكن لهذه الحقائق كلّها فقط أن تفسر إسناد بغداد تجديد مطار الموصل إلى الشركة الفرنسية (مطارات باريس)، وليس إلى تحالف "كورك – قاليون".
وإضافة إلى المزايا الاقتصادية التي يقدمها الشريك الفرنسي، يمكن تفسير ما حصل بكونه محاولة من الحكومة العراقية المركزية لمنع تركيا من تدشين هيمنة على الموصل تخشاها جميع الأطراف المتنافسة على العراق، كذلك ملفّ المياه الذي يواجه الأخير فيه شبح الجفاف الشامل نتيجة البدء بملء سد "إليسو" جنوب شرق تركيا، وأيضاً في ملف السياسة التركية في شمال العراق، حيث ما يزال النظام التركي رافضاً انسحاب قاعدة بعشيقة أو وقف ضرباته العسكرية في محافظة نينوى.. عليه، يبقى تطوير مطار الموصل بين الأهمية "الجيو - استراتيجية.. والجيو - سياسية" في صراع فرنسي - تركي.