المسلمون والغرب في فكر الفيلسوف النمساوي هانس كوكلر
يمكن تأطير كوكلر في صف المفكرين الأوروبيين المتشبعين بالنزعة الإنسانية والمدافعين عنها. وحتى لو لم يكن مستشرقاً بالمعنى الدقيق للكلمة.
نظرة خاطفة إلى السيرة الذاتية للفيلسوف النمساوي هانس كوكلر (Hans Köchler)، تُقنع بأنه من المفكرين الغربيين "غير العاديين" بالمعنى الإيجابي للكلمة، فقد أظهر عندما كان شاباً يافعاً حديث العهد بالعمل الأكاديمي استعداداً قوياً لمد اليد إلى ثقافات وحضارات أمم أخرى في مشارق الأرض ومغاربها، واقفاً بذلك في وجه المركزية الأوروبية والغربية في كل تجلياتها وأصباغها، الظاهر منها والمستتر.
يرجع هذا الالتزام الفكري إلى قناعاته الفلسفية والإنسانية بالعدالة والمساواة بين البشر في الحقوق والواجبات ومقاومة الظلم الذي تعرضت له شعوب الأرض من طرف الأوروبيين منذ حركات الاكتشافات الجغرافية، ومنذ سقوط آخر معاقل المسلمين في الأندلس.
وبهذا، يمكن تأطير كوكلر في صف المفكرين الأوروبيين المتشبعين بالنزعة الإنسانية والمدافعين عنها. وحتى لو لم يكن مستشرقاً بالمعنى الدقيق للكلمة، فإنه طوّر منهجه الخاص في دراسة القضايا الإسلامية والتعريف بها في المحافل الدولية والدفاع عنها. كما أنه حاول التأسيس لثقافة حوار مسؤول وجدي بين المسلمين والغرب، قوامه الاعتراف بحقوق المسلمين وممارسة حوار الند للند، من دون شروط مسبقة من طرف الغرب.
لا يصف كوكلر منهجاً واضح المعالم لكيفية بنائه الحوار بين الغرب والمسلمين، لكن باستطاعة المتتبع لفكره والدارس له العثور على هذا البناء من خلال النصوص المختلفة التي نشرها حتى الآن، ومواقفه المبدئية وترحاله في ربوع العالم المسلم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً. ونورد هنا وصفاً، ولو وجيزاً، لمنهجه هذا، مع التأكيد أنه وصف غير كامل ويتطلب تعميقاً أكثر.
- على مستوى القانون الدولي: من الطرق التي لجأ إليها كوكلر لتعرية مكامن تشنج العلاقة بين الغرب والدول غير الأوروبية، وخصوصاً المسلمة، هو تحليله لتطبيق القانون الدولي. وقد طبق هذا المنهج في الكثير من نصوصه، وكان كتابه الضخم "العدالة الجنائية الدولية في مفترق الطرق.. عدالة عالمية أم انتقام شامل؟" المرجع الأساس الذي يلمس المرء فيه هذا التطبيق بصورة أكثر وضوحاً.
يقول مثلاً: "منذ نشر هذا الكتاب في العام 2003، تأكدت الأفكار التي ناقشناها فيه أكثر فأكثر، وهي أفكار متعلقة باستغلال قانون العقوبات الدولية للقوى السياسية العالمية... بسبب غياب تفريق السّلط في نظام العلاقات الدولية، والذي ينتج منه خلط بين القانون والسياسة، فإن الأمر يتعلق غالباً... بأشكال واضحة لقانون الغالب".
يتضح من النص أنَّ المنهج المتبع من طرف كوكلر في تشخيصه لمواطن التشنج بين الغرب والمسلمين هو إزاحة الغطاء تحليلياً عن استغلال القوانين الدولية من طرف الدول القوية لصالحها، بمعنى أن عدم التطبيق الصارم لهذه القوانين، من دون استثناءات، يساهم في نظره في خلق بؤر توتر بين الغرب والمسلمين.
يظهر هذا المنهج أيضاً الطريقة العميقة التي يبحث فيها كوكلر عما يختبئ وراء التطبيق غير العادل للقانون الدولي من طرف القوى العظمى، ويتمثل هذا المُضْمَر في السلوك الاستعلائي للغرب تجاه الدول الأخرى وإظهار قوته وسلطانه.
ويؤدي هذا الأمر في الكثير من الأحيان إلى ما يسمى "الكيل بمكيالين" في القانون الدولي، فقد "استغل أحد بنود محكمة العدل الدولية بضغط من مجلس الأمن للاهتمام بالوضع في دارفور في السودان، على الرغم من أن هذا البلد ليس عضواً في هذه المحكمة. ولم يحصل الشيء نفسه مثلاً في ما يتعلق بالوضع في غزة، حيث تم كبت جرائم حرب كبيرة سنتي 2008 و2009".
وعلى الرغم من أن منهج "تحليل القانون الدولي" بحثاً عن تشنجات العلاقة بين الغرب والمسلمين صعب جداً، ويتطلب جهداً كبيراً ومعرفة واسعة بالقانون الدولي نفسه، فإنه، في نظرنا، منهج مهم جداً لوعي الطرق المختلفة والملتوية التي تؤسس للعلاقات اللامتوازنة بين الدول القوية ونظيرتها الضعيفة، ومن ثم خلق جو من عدم الرضا والشعور بالظلم من طرف هذه الأخيرة. ويكون رد الفعل الطبيعي للدول التي يُمارس عليها هذا الحيف، وخصوصاً الدول المسلمة هو الرفض للغرب جزئياً أو كلياً، وتقوية النزعات المتطرفة أيضاً، سواء في الغرب أو في الدول المسلمة.
على مستوى اتخاذ مواقف واضحة وصارمة، يُعتبر منهج أخذ مواقف واضحة وصارمة تجاه الغرب في تعامله مع المسلمين، ووضع الأصبع على السلوك المتعجرف لهذا الغرب تجاه المسلمين الذين يعيشون في الدول ذات الأغلبية المسلمة أو الذين يعيشون في الدول الغربية نفسها، منهجاً قائماً بذاته لكوكلر في دراسته للعلاقة المتشنجة بين الغرب والمسلمين. ولو كان هذا المنهج نتيجة شبه طبيعية للمنهج الآنف الذكر، فإن مقوماته مختلفة بعض الشيء.
وأهم ميزة لهذا المنهج هو الحضور الفيزيقي لكوكلر في الكثير من الدول المسلمة، لمعاينة إشكاليات دراسته في الواقع الفعلي للمسلمين، سواء في بؤر التوتر العسكري في البلدان المسلمة (لبنان وسوريا والعراق وليبيا...) أو على شكل لقاءات فكرية جمعته بالعديد من المفكرين المسلمين في كل البلدان المسلمة تقريباً، ودعوته المفكرين المسلمين من مختلف التوجهات الفكرية والعقائدية للمشاركة في محاضرات وندوات ومؤتمرات نظمها في إطار مهمته السابقة كرئيس لقسم الفلسفة في جامعة "إنزبروك" النمساوية أو كرئيس لمنظمة التقدم العالمية التي أسسها في فيينا.
ولا يقتصر منهجه على هذا الأمر فقط، بل إنه يُعززه باتخاذ مواقف لصالح المسلمين في المحافل الدولية على مستوى منظمات عالمية كثيرة، وخصوصاً منظمة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. وتوثّق مواقفه دائماً بشكل مكتوب في أرشيفات هذه المنظمات وينشرها في منابر عديدة.
يقوّي كوكلر هذا المنهج على المستوى الإعلامي الواسع النطاق في شكل حوارات لجرائد ومجلات في الدول الغربية والدول المسلمة، كما أنه يشارك في الكثير من اللقاءات المتلفزة لمناقشة مواضيع تتعلق بالإسلام في علاقته بالغرب.
على المستوى العقائدي والثقافي، حلّل كوكلر في العديد من نصوصه أهمية الحوار العقائدي والثقافي بين الغرب والمسلمين. وبالرجوع المنهجي إلى ما يجمع المسيحية والإسلام وما يفرقهما على المستوى العقائدي، عمل كوكلر على التأكيد أن أهم ما يجب القيام به هو الاهتمام أكثر بما يجمع كأساس للتعايش السلمي بين الطرفين، من دون إغفال ما يفرق، لأنه يتضمّن خصوصيات كل جانب من الجانبين، وليس من حق المرء، في نظره، ترك الخصوصيات جانباً، لأنها تساهم في هوية كل من الإسلام والمسيحية على حد سواء. وفي مثل هذه النصوص، استعمل المنهج المقارن في دراساته المختلفة.
أما على الصعيد الثقافي، فقد عمل كوكلر على إظهار الدور الفعال الذي أدته الثقافة والحضارة المسلمة في بناء الحضارة الإنسانية الحالية في مختلف الميادين ابتداء من العصور الوسطى. وبحكم احتكاكه المباشر بثقافات العالم المسلم، فإنه قدم ثقافة المسلمين الحالية كثقافة عالمية، داحضاً بذلك أطروحة "صراع الحضارات" بكل ما أوتي من قوة، فالإسلام لا يمثل في نظره خطراً على الغرب، بقدر ما يُعتبر شريكاً في "صُنع" ثقافة عالمية، قوامها الاحترام والاعتراف المتبادل، مذكراً على الدوام بالإرث الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية ومناخ التفاهم والتعايش بين الديانات الإبراهيمية الثلاث ومعتنقيها.
من الأهمية بمكان ونحن في صدد الحديث عن مناهج وطرق دراسة هانس كوكلر عامة، وموضوع تشنج العلاقة بين الغرب والمسلمين خاصة، الإشارة إلى أن الخلفية المنهجية التي ينطلق منها تتمثل في المنهج الفينومينولوجي. ومن المعلوم أنه من المتخصصين الكبار في الفينومينولوجيا. وقد ارتأينا أن نعطي في هذا المقام نظرة، ولو سريعة، على هذا المنهج، لكي نفهم طريقة معالجته لأبحاثه.
كان ذلك بإيجاز شديد جداً وصفاً للأساس المنهجي الذي طوّره كوكلر لبناء طُرُق ومناهج عمله في ما يتعلق بتبيان العلاقة المتشنجة بين الغرب والمسلمين. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ هذه المناهج تتداخل وتتكامل في نصوصه. وقد ينتقل في البحث نفسه من طريقة إلى أخرى، رغبة منه في الوصول إلى أفضل النتائج.