المصالحة الخليجية… أين موقع الإمارات؟
أرادت أبوظبي من خلال صورتها كشريكٍ في اتخاذ القرار، مقاطعةً أو مصالحةً، أن تظهر إلى جانب الرياض، إلاّ أنّ رياح العلا لم تأتِ بما اشتهته سفن الإمارات.
من منظورٍ أوسع وأشمل خارج الإطار، هكذا كانت الإمارات في صورة المصالحة الخليجية. أبو ظبي التي ظلّت حاضرةً كالطّرف الأبرز في القطيعة مع قطر، غابت أو غُيِّبت عن أضواء الحدث الخليجي الذي احتلّ العناوين في الأيام الأخيرة. انعقدت قمّة العلا، وظهر الحدث بصورة مصالحةٍ سعودية- قطرية، وكأنّ الأزمة عالقةٌ هنا، وما دون ذلك مجرد هوامش.
هكذا أرادتها قطر، وكان للإمارة الخليجية ما طلبت، طالما أنّ طيّ ملف الأزمة، هو ما تريده الولايات المتحدة الأميركية. أعلنت السعودية عن فتح حدودها مع قطر كخطوةٍ أولى، تلاها إتمام المصالحة رسمياً بحضور أمير قطر في قمّة العلا. هكذا أتى الحلّ بصيغةٍ رسمته الدوحة مسبقاً. وسرعان ما خرجت الديبلوماسية الإماراتية لترحّب بالصُّلح، مستبقةً انعقاد القمّة بوصفها تاريخيةً وكفيلةً بإعادة اللُّحمة الخليجية، وفق ما صرّح وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتية أنور قرقاش.
أرادت أبوظبي من خلال صورتها كشريكٍ في اتخاذ القرار، مقاطعةً أو مصالحةً، أن تظهر إلى جانب الرياض، إلاّ أنّ رياح العلا لم تأتِ بما اشتهته سفن الإمارات، فوسط غياب حاكم الإمارات الفعلي، وملك البحرين والرئيس المصري، كانت صور العناق تُلتقط، مسدلةً الستار عن أعوام القطيعة بين شعوب الدم الواحد. لماذا غياب بن زايد والسيسي وحمد بن عيسى؟
تنقل مصادر خليجية مطّلعة أنّ شروط أمير قطر هي من رسمت مشهد الحضور في القمّة، فبغياب بن زايد والسيسي، أراد تميم بن حمد أن يسجّل حضوراً في الحدث الخليجي الأبرز منذ سنوات، من دون اكتراثه لحضور البحرين أو عدمه. أمّا الموقف القطري من مصر، فهو سياسيٌّ بكلّ أبعاده، إلاّ أنّ الخلاف مع الإمارات، وإن كان سياسيّ المنشأ، تحكمه خياراتٌ استراتيجية في التعاطي مع ملفات المنطقة وموازينها.
تعاطي أبو ظبي تحديداً أزاء الأزمة، عمّق الخلاف ليأخذ أبعاداً شخصية. ما كشف عنه السلوك الإماراتي تُرجم عداءً حقيقياً، وصل إلى حدّ كسر محرّماتٍ وقواعد لطالما حكمت الخلافات الخليجية- الخليجية أو العربية عموماً. طالت الانشقاقات قذف الأعراض، في إساءاتٍ، كانت تخرج من أسماء تُحسب من الدائرة اللّصيقة بابن زايد، لم تتوقف عند شخص أمير قطر، بل طالت والدته موزة المسند. وبهذه الصورة، وجدت قطر أنّ أيّ مشاركةٍ تجمع أميرها بمحمد بن زايد ستكون بمنزلة تنازلٍ عن هتك الأعراض الذي طالها، وفق ما نقلت مصادر خليجية.
صورة المصالحة التي تجلّت باستبعاد الإمارات من المشهد كان لها تداعياتها، فما بدا إماراتياً بأنه حدثٌ تاريخي وإعادةٌ للُّحمة الخليجية، ما لبث أن تبدّل، ليعود الوزير الإماراتي ويُصرح بأنّ عودة العلاقات كاملةً ستستغرق وقتاً. استدعى هذا الموقف رداً قطرياً على مستوى مدير المكتب الإعلامي في وزارة الخارجية، قائلاً إنّن المحاولات الهامشية لتعكير صفو الأجواء الإيجابية للمصالحة الخليجية متوقّعة، وبالتوازي مع الضخّ الإعلامي السعودي والقطري تهليلاً بالمصالحة، كان التفاعل الإماراتي مع الحدث أكثر من باهت.
ذهبت الصحف المحسوبة على الإمارات إلى أبعد من مجرد التهجّم على قطر، فسألت صحيفة العرب اللندنيّة، المموّلة إماراتياً: "متى التزمت قطر بوعودها من قبل، ثم متى نجحت السعودية من قبل من الخليج إلى العراق وفي اليمن وتركيا وإيران، إن لم تكن ثمة قوة خارجية مساعدة تعتمد عليها. إنّ استخدام عبارة طيّ صفحة الخلاف داخل مجلس التعاون الخليجي، بعد قمّة العلا في السعودية، لا يعبّر عن أيّ شيءٍ حصل بالفعل! بينما تغيب الدروس المستفادة من كلّ الذي حصل سواء في الدوحة أو الرياض".
موقف تلو آخر، كانت الإمارات تبدو فيها أنها جُرّت إلى المصالحة على مضض، على غرار شقيقاتها، ولماذا؟ لأنّ دول الخليج العربية التي تحكمها المصالح الأميركية، أعجز من أن ترفض طلباً لرئيسٍ أميركي، حتى لو تبقّى له مجرّد أيامٍ في الحكم. وماذا لو أتى الطلب مقروناً بإغراءٍ لطالما حلمت تلك الدول في تحقيقه؟
ظهر جاريد كوشنر كعرّابٍ للمصالحة، كما كان راعياً للأزمة. وفي زيارةٍ واحدة، أنجز -صهر ترامب- ما لم تفلح في تحقيقه الجهود الديبلوماسية الكويتية طيلة سنوات الأزمة. ولكوشنر كما لترامب مآربهما الشخصية، فالأوّل كان راعياً لأزمةٍ عاقب فيها قطر بعد رفضها تمويل رهنٍ عقاريٍّ يعود لعائلته، قبل أن يقايض تخفيف القيود عليها بتحصيل التمويل لاحقاً، بحسب تحقيقٍ نشرته صحيفة "فايننشال تايمز" الشهر الماضي.
أمّا دونالد ترامب، الحريص على سجلّ إنجازاته، ربما لم يرد مغادرة البيت الأبيض قبل أن يضيف إتمام المصالحة في هذا السجلّ، وقبل أن يكون قد هيّأ كلّ الظروف التي لن تعيق اندلاع أيّ مواجهةٍ مع إيران، وفق ما نقلت مصادر غربيّة وإقليمية عدة. إنّها رغبةٌ تلاقت مع أحلام السعودية والإمارات بإشعال حربٍ ضد إيران، فتعّهدتا بعملية تمويلها أكثر من مرة.
وعليه، أتى قبول ابن زايد وابن سلمان بالمصالحة، إذ يركن الرجلان إلى الظنّ بأنّ ما يمتلكه الجيش الأميركي من قوةٍ عسكرية، بإمكانه شلّ إيران خلال ساعات، تمّكن الأوّل من الاستفادة من فرق تدخلٍ مؤلفة من 15 ألف مرتزق أجنبي، جهّزها من أجل فرض سيطرته على الجزر الثلاث: أبوموسى وطنب الكبرى والصغرى، فيما استفاد الثاني من وجودها لتوسيع نفوذه المنحسر بفعل قوة إيران وحلفائها، وفق تصوّره.
في هذا الإطار، رُسمت صورة المصالحة مع قطر. أعاد ترامب لمّ الشّتات الخليجي في مشهدٍ، يسهّل عليه توجيه ضربته الأخيرة، إلاّ أن الصفعة أصابت ترامب نفسه في الداخل الأميركي، في عملية اقتحام الكونغرس من قِبل أنصاره، لتعيد خلط الأوراق خليجياً، وتضع المصالحة أمام استحقاقٍ حول إمكانية صمودها.