الوسائل اللاعنفية في السلطة
تاريخ الدعاية قديم العهد وهناك بعض الباحثين من أعاده إلى العصر الإغريقي، حين كان يُسمى الذين لا يتحدّثون الإغريقيّة بالبرابرة. وكان كتاب أفلاطون "الجمهورية" قد وضع أسس الرقابة على الأعمال التي تُلقى على الجمهور.
عندما بدأ العقل البشري في تنظيره لمفهوم الدولة وفكرة السلطة الحاكمة، أخذ المفكّرون يأخذون مناحٍ عدّة في رسم هيكل سلطة الدول وشكلها لإخضاع المجتمع على اختلاف أفراده وتعدّد أشكاله.
فمنذ قديم الزّمن والحكام يتعاقبون على حكم المجتمعات، ولكلٍّ منهم أسلوبه لفرض هيبة سلطته؛ وكما لكلّ زمانٍ حاكم، كان هنالك أيضاً مفكرٌ أو فيلسوفٌ ينتقد مجتمعه تارةً ويسعى إلى رسم صورة مجتمعٍ يحسبه الأمثل تارةً أخرى، فكلٌّ انطلق بحسب مفاهيمه الحالية من حيثيّات زمنه، فمثلاً أرسطو ونظريّته الأخلاقيّة وطريقة معاملة الحاكم والسلطة للشعب آنذاك، تعكس مراسي المدينة الفاضلة التي كان يطمح لها والحدود التي بنى عليها أفكاره.
ومن ثمّ تعاقبت العقود حتى نرى مثلاً مكيافيلي في كتابه "الأمير" الذي كتبه إبّان فترةٍ شهد فيها تفككاً رهيباً طال محيطه ليخالف أرسطو في حيثيّة الفصل بين السياسة والأخلاق. فاختلاف وجهات النّظر بين مَن يرى الأخلاق تتجلّى في سلوكٍ لا يستند إلى العنف ولو كان الحقّ مكتسباً، و بين مَن يرى أنّ العنف جائزٌ ولو كان ظلماً، من أجل فرض هيبة السلطان وقوة الحاكم. سبّب هذا التباين في وجهات النّظر في إرساء تفكيرٍ جديد ينظّر لوجود أساليب فرض السلطة لهيبتها دون اللّجوء إلى الوسائل غير الأخلاقية والطرق العنيف.
وأخذت التطوّرات تلعب دوراً في إثبات قوة اللاّعنف لبسط نفوذ الدولة في إرساء كيان سلطتها بشكلٍ ملفتٍ دعى من خلاله كثيرون للبحث والغوص فيه ودراسته بشتّى اشكاله و تأثيراته، وباتت أساليب اللاعنف هي الوسيلة الأكثر إلفاتاً للدول. فاستخدام الطرق "السلميّة" أجدت نفعاً وأثبتت فعاليتها في إبطال الأعمال اللاقانونية ضد النظام، بحيث تأخذ هذه الطرق "السلمية" أشكالاً عديدة منها النفسيّة، الاجتماعيّة، الاقتصاديّة والسياسيّة.
وهنا كانت الـ(propaganda)، صناعة الوهم، ولنضِف لها "البوتس" (التبرّج) السياسي وبعبارة شفافة أكثر، التلاعب بالرأي العام، هذه الطرق وغيرها كانت من أساليب الدول اللاّعنفية لبسط سلطتها. وبغضّ النّظر عن مدى تأثيرها على المجتمع، إلاّ أنّها كانت أبرز الأساليب لجعل المجتمع رهينة قرار الدولة وخاضعاً لنفوذها، إذ أنّها لعبت على الصعيد النفسي والسياسي دوراً لأخذ الرأي العام نحو خياراتها.
ولو كانا بعرضها سلاحاً لصالحها، فـ"البوتس السياسي" رفيق الدعاية (Propaganda)، كأنهما خُلقا من رحمٍ واحدة، فكلاهما يسعى إلى التأثير في الرأي العام وإقناعه بأخذ اتجاهٍ فكريٍّ محدّد، ولا بأس في عُرفيهما بتزيين القبيح وتقبيح الحسن، وصولاً إلى تحقيق هدفٍ نفسيٍّ تُتّخذ القرارات بناءً عليه.
تاريخ الدعاية قديم العهد وهناك بعض الباحثين من أعاده إلى العصر الإغريقي، حين كان يُسمى الذين لا يتحدّثون الإغريقيّة بالبرابرة. وكان كتاب أفلاطون "الجمهورية" قد وضع أسس الرقابة على الأعمال التي تُلقى على الجمهور، وأباح للحُكّام أن يلجأوا إلى الخداع كجزءٍ أصيلٍ من العمليّة الديموقراطية، أمّا الدعاية، في وجهها المعاصر، فتتّخذ التّكرار منهجاً نفسياً، بموجبه تكون الكذبة المُكرّرة على لسان المسؤولين وأجهزة الإعلام الرسمية والمثقفين الموالين، "حقيقةً" شعبيّة لا يُسمح بتحدّيها.
وهي "حقيقةٌ" لا تكتسب هذه الصفة إلاّ إذا حلّت ضيفاً يومياً أو شبه دائمٍ، بحيث تبدو مألوفةً وسهلة الفهم بعد تكرارها لفترةٍ طويلةٍ من الزمن، فهي تبدأ كما تُشير الدراسات عبر إيمان الأقران بها، ثم تمضي إلى أفراد العائلة الذين يتناقلونها دون وعيٍ عبر الأجيال، إضافةً إلى أنّ الرسالة الدعائيّة ينبغي أن تكون مصحوبةً بشعاراتٍ مشحونةٍ بعواطفَ جيّاشةٍ تُيسّرمهمّة مُعدّ الرسالة في حشد أكبر قدرٍ ممكنٍ من المؤمنين بها .
إنّ السلطات التي تلجأ إلى أسلوب الـ"propaganda"، تغزو أيضاً الحياة الاقتصادية التي تشكّل للسلطة سيفاً ذا حدّين، فمع التحكّم بالاقتصاد، تستطيع السلطة التحكّم بالشعب، إذ أنّ قوام سيولة المجتمع، يعتمد بشكلٍ أساسيٍّ على ما تمتلكه السلطة، فتفرض ما يتناسب ومصالحَها لجعل الشعوب تحت سلطتها، ولكنّ هذا الأسلوب خطيرٌ بشكلٍ من الأشكال، بحيث أنّ الخطأ فيه يعرّض البلاد للانقلاب في أي وقتٍ، ويجدر بنا ألاّ ننسى أنّ الجوع ثورةُ بحدّ ذاته، ويتعيّن على السلطات التنبّه له.
وبموازاة ذلك، يمكن أن تكون المخابرات ودائرة الجواسيس السريّة والأجهزة المماثلة تحكم الشعوب بيدٍ من حديد، بشكلٍ يُرسي السلطة دون الحاجة إلى العنف الذي قد يلجأ إليه بعض الحكّام أحياناً لتهويل الناس. إنّ فكرة المخابرات برأيي فيها عنفٌ معنويّ، إلاّ أنّها طريقةٌ أثبتت فعاليّتها في بسط سلطة الدولة بشكلٍ ما، دون اللّجوء إلى العنف الجسدي أو إراقة الدماء.
وهنا تجدر الإشارة إلى نقطةٍ مهمّة، فالبعض يعتقد أنّ العنف يؤدّي إلى تحقيق أهدافه بسرعة وأنّ اللاّعنف يتطلّب وقتاً طويلاً لتحقيق أهدافه، وكِلا الأمرين غير صحيحٍ؛ إنّها فكرةٌ مغلوطة بشكلٍ متداخلٍ حيث أنّ العنف قد يؤدّي إلى انقلابٍ على السلطة بشكلٍ بطيء تارةً أوسريعٍ تارةً أخرى، وكذلك يمكن أن يخمد اللاعنف انقلاباتٍ أو حركاتٍ ضد السلطة بشكلٍ أسرع من العنف، فمثلاً لو كانت السلطة قد اعتمدت في تركيز الثوابت الوطنية والحسّ الوطني في التربية والوسائل التعليمية - بعيداً عن الوازع الديني والأخلاقي اللّذين يلعبان كذلك دوراً في بسط سلطة الدولة من خلال الوطنيّة - لأصبحَ هذا المجتمع سلاحاً في يد الحاكم، يُعتمد عليه في الوطنية التي زرعتها السلطة في النفوس منذ نعومة أظفاره، ليكون هو مجتمعها القادم، فيسهل عليها ضبط الحركات وتدخّلات الأشخاص ضد السلطة.
إنّ اللاّعنف في مفهوم السلطات والحكّام أسلوبٌ وسياسةٌ ترتقي لتكون من أفضل الأساليب لضبط المجتمع في سبيل إرساء هيبة الدولة وبسط نفوذها بطريقةٍ بعيدةٍ عن سفك الدّماء والقوة، بالاعتماد على كون اللاعنفيّة طبيعةٌ ترتبط بامتلاك القوة وممارستها وترك أثرها في قوّة الخصم، ومع ذلك يبقى التوازن في فرض الدول لنفوذها بين القوة واللاعنف أساساً لا يمكن تخطّيه في صناعة الحكّام وسلطة الدول وهيبتها.