الهجرة المسيحية.. "النموذج السوري"

إن صنع السلام في المنطقة عامةً وسوريا خاصةً، هو العامل الأول لترسيخ العرب المسيحيين في أوطانهم.

  •  الهجرة المسيحية..
    الهجرة المسيحية.. "النموذج السوري"

ما نشهده اليوم هو حركة هجرةٍ "مسيحيّةٍ في المنطقة العربية" وفي سورية خاصة، جماعيّةٍ وسريعة الوتيرة تحفّزها الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي نعيشها، والمسيحيّون بذلك ليسوا استثناءً عمّا يجري لأقرانهم المسلمين.

ويُضاف إلى ذلك أن "بعض المسيحيين يشعرون بأنهم مهمّشون ولا رغبة في وجودهم" وهذا مقطعٌ من إجابة البطريرك نصر الله صفير، على سؤال حول أسباب هجرة المسيحيين العرب من أوطانهم عام 2003.

عبر السنوات ومن خلال مناقشاتي مع الكثير من فئات الشعب السوري، تأكّدَتْ قناعةٌ سابقةٌ، أن التنوّع الإثنيّ في أي مجتمعٍ كان، يخفّف من غلواء التطرّف. والمجتمعات ذات الغالبية الإسلامية ليست بعيدةً عن ذلك، فإن وجود المسيحيين في سوريا يساعد على عقلنة التطرّف - إذا جاز التعبير- ويخفّض من وتيرة الإرهاب، وعلى البلاد الأجنبية أن تعيَ ذلك، لأنني ألمسُ إفراغ آسيا الوسطى من الثّقل السكاني للمسيحيين -سكانها الروم، الأرمن، الآشوريين، العرب المسيحيين في جنوب تركيا، موارنة لبنان- بالمذابح، بالتهجير القسري للسكان أو بالهجرة إلى أوروبا والولايات المتحدة، وهذا سيرتدّ على هذه المناطق التي ستَفقد المسيحين بأن تصبح مرجلاً تطرفياًّ قابلاً للانفجار، والانفلاش في كل أنحاء العالم، وهو ما نلمسه اليوم.

لماذا نهاجر؟

إن موضوع الهجرة المسيحية يتناوله الناس عامةً، من تأكيدات مصدرها الخوف والقلق، وبدوافع ترتكز على إرادة الخروج من مأزقٍ إجتماعيٍّ وإقتصاديٍّ، أو على الهروب من واقع لا يرتضونه.

ومازالت هنالك أسبابٌ تدعو إلى هجرة المسيحيين من المنطقة عامةً وسوريا خاصةً. إحدى هذه الأسباب عقدة الشعور بالخوف من المستقبل. فأمام موجة التعصّب وسوء التفاهم، وأمام "التيار المتطرف" المتنامي الذي نتنبّه له "من أسماء الفصائل المحاربة على الأرض السورية"، والذي هو "من صنع الغرب السياسي" كما قال لي الشيخ الدكتور محمود عكام، مفتي حلب، والذي "يحزن على شعوب الغرب لِما يحدث الآن"، يتنامى الشعور بالخوف من المستقبل والخوف من عدم استمرارية روح العيش المشترك بين المسيحية والإسلام. ربما يكون هذا العامل النفسي غير صحيحٍ، ولكنه في الواقع موجود.

لماذا الهجرة؟ لأسباب كثيرة منها أوّلها الوضع الاقتصادي المتردّي. هذه الظاهرة ليست محصورةً بالمسيحيين فقط، ولكن تأثيرها سلبيٌّ واضحٌ فيهم وفي المسلمين، والعقوبات الاقتصادية المتعددة على سوريا تؤثر بشكل كبير على الاقتصاد المجتمعي العام، والمسيحي الخاص.

اليوم ظاهرة الهجرة أصبحت خطيرةً -ومنها ما تسبّبه العقوبات الاقتصادية على سوريا- فالناحية الاقتصادية دافعٌ من دوافعِ الهجرة. ولكن الواقع أن هنالك إحساسٌ بالخوف من المستقبل، لأن المجازر التي وقعت في بدايات القرن العشرين في أيام العثمانيين تتراءى أمامهم، وكأن المسلمين يستعدون لشن حملة اضطهاد على المسيحيين في أي لحظة، الأمر الذي يُنكره العقلاء، وكل من يفهم ما معنى الوحدة الوطنية والإخاء الديني والعيش المشترك في سوريا.

إننا إزاء مأساةٍ مستمرةٍ تستهدف الوجود المسيحي، والنتيجة تُعبِّر عنها الهجرة وسط صمت إسلاميٍّ وغربيٍّ مريبٍ لا تنفعه المواقف المندّدة التي تطلقها بين الحين والآخر المرجعيات الزمنية والروحية.

المشكلة مع هجرة المسيحيين، هي أن معظم الجماعات المسيحية في بلادنا جماعاتٌ صغيرةٌ عددياً، ومن ثم تترك الهجرة فيها أثراً كبيراً من حيث أنها شلّت قدرتهاعلى متابعة الحياة الجماعية بما تتطلبه من نشاطات هجرة.

تؤثّر هجرة المسيحيين السوريين سلباً على تركيبته السكانية، فبفعل هجرة فئة الشباب، بقيَ أهلهم الأكبر سناً وهي مشكلة، وسنلاحظ أن تفريغ المنطقة سنلمسه بعد سنوات.

إضاءة حول بعض الحلول

إن صنع السلام في المنطقة عامةً وسوريا خاصةً، هو العامل الأول لترسيخ العرب المسيحيين في أوطانهم.

أنا من مسيحيّي سوريا، وصمتنا يعني: أننا لا نطالب إلا بالمواطنية التامة، بالمساواة، ولا نريد حمايةً أجنبيةً، ولا وصايةً، ولا استقواءً بالخارج، نحن لسنا أهلَ تقوقعٍ، ولا نريد تسهيلاتٍ للهجرة وإلّا سأصبح حارساً لمنازل المسيحيين الفارغة المهجورة.