بايدن الرئيس ومشاريع التقسيم!
من الطّبيعي أنّ بايدن الَّذي تجنَّب الخوض في مشروع تقسيم العراق حين أصبح نائباً للرئيس قبل 12 عاماً، لن يخوض فيه بعد أن عاد إلى البيت الأبيض رئيساً.
كان الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن، رئيساً للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، عندما طرح في العام 2007 مشروع تقسيم العراق إلى 3 دول - كانتونات - على أساس قومي وطائفي، كحلّ لمشكلة الاحتقان السياسي بين مكوناته، وتم التصويت عليه من قبل المجلس، علماً أن طرح مشروعه جاء متزامناً مع ذروة التصعيد الطائفي الذي أوجده تنظيم "القاعدة" الإرهابي في العراق، وتسبَّب بسقوط الكثير من الضحايا الأبرياء من مختلف مكونات النسيج المجتمعي العراقي.
وبعد أن أصبح نائباً للرئيس باراك أوباما للفترة الممتدة من العام 2009 وحتى العام 2017، تجنَّب بايدن إعادة طرح مشروع تقسيم العراق، لا لأنه لم يعد مقتنعاً به أو لأنه اكتشف حقائق ومعطيات جديدة، بل لأنّ موقعه الجديد يحتّم عليه أن يتصرف بحذر في إطار المسارات والسياقات الرسمية المعلنة للإدارة الأميركية، بيد أنَّ ذلك لم يكن يعني أن مشروعه التقسيمي طواه النسيان وأصبح من الماضي، فالجدل الكبير الذي أثاره في مختلف الأوساط والمحافل السياسية والإعلامية والفكرية في واشنطن وبغداد وعواصم أخرى، لم يتوقف، وبات كل من يريد أن يتحدث عن أيّ تصورات أو أفكار بشأن تقسيم العراق - سلباً أو إيجابياً - يعرّج بطريقة أو بأخرى على مشروعه.
واليوم، بعد فوز بايدن بالسباق الرئاسي الأميركي، عاد الحديث مجدداً بقوة عن مشروعه التقسيمي المثير للجدل، وسط تكهنات عديدة عن طبيعة المنحى الذي سوف يتخذه الرئيس الجديد حيال ملفّ مهمّ وحيويّ وحسّاس لا تقتصر أهميته وحيويته وحساسيته على العراق فحسب، وإنما تمتد إلى الفضاء الإقليمي العام.
من الطّبيعي أنّ بايدن الَّذي تجنَّب الخوض في مشروع تقسيم العراق حين أصبح نائباً للرئيس قبل 12 عاماً، لن يخوض فيه بعد أن عاد إلى البيت الأبيض رئيساً، لأسباب واعتبارات عديدة، ولكن هذا لا يعني أن الفكرة غادرت ذهنه، ولم يعد لها وجود، بل إن المؤشرات والقراءات الأولية تذهب إلى أن مشروع التقسيم سيكون أحد أبرز "المانشيتات" الرئيسية للملف العراقي في دوائر ومراكز صنع القرار في واشنطن، انطلاقاً من حقيقة أنَّه في واقع الأمر أكبر من بايدن، سواء كان سيناتوراً في الكونغرس الأميركي أو نائباً للرئيس أو حتى الرئيس نفسه.
ولا تعود خلفيات المشروع إلى العام 2007، حين طرحه بايدن وحظي بترحيب مجلس الشيوخ ليكون قراراً غير ملزم، بل إنَّ دوائر وشخصيات أميركية وإسرائيلية مختلفة بدأت بالعمل عليه والترويج له قبل أكثر من 60 عاماً.
في العام 1957، أصدر كاتب هندي اسمه ر. ك. كرانيجيا كتاباً تحت عنوان "خنجر إسرائيل"، تضمَّن وثائق مسربة من "الجيش" الإسرائيلي تتحدَّث عن مخطط لتقسيم العراق إلى 3 دويلات، كردية وشيعية وسنية. وبعد حوالى 15 عاماً، قدم وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، مشروعاً تضمن تقسيم الدول العربية على أساس طائفي، على أن يبدأ من العراق، باعتباره يشكل الحلقة الأخطر على أمن الكيان الصهيوني.
وفي العام 1980، نشر عوديد بنون، مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيغن، مقالاً مفصلاً تحت عنوان "استراتيجية إسرائيل في الثمانينيات"، دعا فيه صراحة إلى تقسيم الوطن العربي، من موريتانيا إلى عمان، على أسس عرقية وطائفية. ويكون للعراق الأسبقية في التقسيم إلى 3 دويلات، تحت ذريعة أنه العدو الأكبر لـ"إسرائيل".
وبعد بنون، ظهر المستشرق البريطاني الصهيوني برنارد لويس، ليقدم خريطة إلى الكونغرس الأميركي، يقترح فيها تحويل الدول العربية، ولا سيما الفاعلة والمؤثرة منها، إلى كيانات صغيرة بعناوين طائفية وعرقية، لضمان أمن "إسرائيل" وتفوّقها على جيرانها ومحيطها الإقليمي.
وخلال الفترة الزمنيّة المحصورة بين غزو نظام صدام لدولة الكويت في العام 1990 وما ترتب عليه من وقائع وأحداث حتى الإطاحة بذلك النظام في ربيع العام 2003، ازدهرت وانتعشت أفكار وطروحات ومشاريع تقسيم العراق، ارتباطاً بمجمل التحركات الساعية إلى محاصرة نظام صدام وإضعافه وإسقاطه.
ولعل البعض رأى في مشروع المنطقة الآمنة في شمال العراق فوق خط العرض 36، والتي أقرها مجلس الأمن الدولي بعد حرب تحرير الكويت من أجل تأمين الحماية للكرد، مقدمة أو خطوة أولى للانطلاق العملي بمشروع التقسيم.
وقبل الإطاحة بنظام صدام بحوالى عام، نشر مركز "ستراتفور" للدراسات والأبحاث أن الاستراتيجية الأميركية البعيدة المدى التي تعقب غزو الولايات المتحدة للعراق، هي تقسيم البلد إلى 3 مناطق منفصلة؛ منطقة سنية في الوسط تنضمّ إلى الأردن، ومنطقة شيعية في الجنوب تنضم إلى الكويت أو إيران، ومنطقة كردية، من ضمنها الموصل وكركوك.
هذا في الوقت الذي راحت بعض وسائل الإعلام الاسرائيلية تتحدث بوضوح وصراحة عن أنَّ أحد أهداف غزو العراق يتمثل باقتطاع المحافظات السنية وضمّها إلى الأردن، كما كان يروّج لذلك ساسة كبار في بعض دوائر القرار في واشنطن.
هذه الأرقام والمعطيات تعزّز ما أشرنا إليه آنفاً من أنَّ بايدن في واقع الأمر ليس صاحب المشروع الحقيقي للتقسيم، وإنما مثّل حلقةً من حلقات الترويج والتسويق له، مع توفر القناعات الشخصية به، وأن ابتعاده عن واجهة البحث والنقاش المتواصل بهذا الخصوص لا يعني تبدّل قناعاته وأفكاره، بقدر ما يعني وجود ظروف واعتبارات معيّنة تحتّم عليه الانزواء والاكتفاء بالدعم والترويج بأدوات ووسائل وأساليب أخرى، وعبر واجهات وعناوين تمتلك القدرات والإمكانيات للقيام بالمهمة المطلوبة.
ومع وصول بايدن إلى البيت الأبيض رئيساً وليس نائباً للرئيس، ومع انطلاق مشاريع التطبيع مع الكيان الصهيوني بوتيرة متصاعدة، والتركيز على العراق لإدخاله فيها، بل وأكثر من ذلك، اعتباره الهدف المحوري الاستراتيجي، فإن الحاجة قد تكون ملحة بدرجة أكبر لتفعيل مشروع التقسيم.
ولا شك في أنّ مفاهيم ونظريات من قبيل "الشرق الأوسط الكبير"، و"الفوضى الخلاقة"، و"صفقة القرن" وغيرها، تلتقي جميعها عند نقاط ومحطات مفصلية، لتؤسّس بالتالي لواقع جديد راحت ملامحه ومعالمه تتجلى شيئاً فشيئاً، من خلال مظاهر الفوضى والاضطرابات والصراعات الداخلية والأزمات السياسية والاقتصادية والتدخلات الخارجية في أغلب الدول العربية، وبدرجات متفاوتة. ولا شكَّ في أن مجمل أحداث وتداعيات الأعوام السبعة عشر المنصرمة في العراق تمثل أكبر مصداق وأوضح دليل على ذلك.
كلّ ذلك وغيره يستدعي النظر إلى عهد الرئيس الأميركيّ الجديد جو بايدن، من زوايا وأبعاد واسعة، لا تتحدّد بإطار المواقف والتقييمات السلبية لعهد سلفه ترامب، لتبدو وكأنها ردود أفعال فحسب، بل من المهم جداً أن تكون آفاقها طبيعة السياسات الأميركية وجوهرها، بعيداً من الشخوص والمسمّيات الحزبية والسلوكيات الشخصية، حتى تتأسَّس المواقف الصائبة والصحيحة على معطيات الواقع وحقائقه، لا على انفعالات اللحظة وتضليلات اللقطة!