عندما يُجرّم علماء الوهابية الإخوان المسلمين

محاولات الاستيعاب والاختراق لم تنجح بشكل كامل، ولكن التقاء التيارين الوهابي والإخواني ساهم في حدوث ظاهرتين مهمتين، هما "تسلّف الإخوان" و"تأخون السلفية".

  • تيارا
    تيارا "القاعدة" و"الصحوة" هما نتاج مشترك بين التيارين الإسلاميين الوهابي والإخواني

عندما التقى الإمام الشهيد حسن البنا - مؤسّس جماعة الإخوان المسلمين - الملك الراحل عبد العزيز آل سعود - مؤسس المملكة العربية السعودية - في آخر موسم حجّ حضره، طلب منه السماح بفتح فروع للجماعة في المملكة، فردّ عليه بالرفض قائلاً: "كلنا إخوان، وكلنا مسلمون".

أوصل الملك من خلال هذه الجملة القصيرة والعميقة رسالة إلى الإمام، فحواها أنَّ الدولة الإسلامية التي يسعى الإخوان إلى إقامتها موجودة في المملكة، فلا مبرر لوجودهم فيها. وربما أراد أن يقول لا مبرر لوجودهم من الأساس، كي تبقى دولتهم هي النموذج الإسلامي الوحيد القائم بعد سقوط الخلافة العثمانية.

رسمت هذه الجملة بمضمونها السياسي ملامح العلاقة بين المملكة السعودية "الوهابية" وجماعة الإخوان المسلمين؛ العلاقة التي قامت على التدافع والتنافس على احتكار تمثيل الإسلام، فتراوحت بين التصارع والتصادم حيناً، والتصالح والتحالف حيناً آخر، وتخلّلتها محاولات الاستيعاب والاختراق المتبادل وعمليات التلاقح والامتزاج الثنائية، من دون أن تحيد عن خطّ التزاحم على الأرضية الإسلامية السُنية نفسها، وصولاً إلى هاوية التجريم السياسي للإخوان المسلمين من السلطة السياسية السعودية الحاكمة، ثم تبعها الانزلاق إلى هاوية التجريم الديني من السلطة الدينية الوهابية العُليا، ممثلة في "هيئة كبار العلماء"، في فتوى دينية تتهمهم بالانحراف والإرهاب والخروج عن منهج الإسلام. ولمعرفة طبيعة العلاقة بين الطرفين وأسباب الخلاف، من المفيد الحفر عميقاً في الجذور كي نصل إلى قرار النبع.

يبدأ قرار النبع من الإمام الشهيد حسن البنا، الذي تأثّر بالفكر السلفي للشيخ المُصلح محمد رشيد رضا، من خلال تتلمذه في مدرسته الفكرية المتمحورة حول مجلة "المنار" للشيخ رضا؛ تلك المدرسة التي خرجت بين مدرستين سلفيتين: الأولى منهجية عقلانية مُستنيرة للإمامين المُجددين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده (تيار الجامعة الإسلامية)، والثانية مذهبية نصية مستقاة من فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب بامتدادها التاريخي إلى الإمامين الكبيرين أحمد بن تيمية وأحمد بن حنبل (تيار السلفية الوهابية).

فكانت الدعوة السلفية أحد روافد فكر الإمام البنا، وخصوصاً في عقيدة التوحيد، ولكنه تأثر أيضاً بالمدرسة الصوفية، من خلال تتلمذه على مشايخ الطريقة الشاذلية الحُصافية، فانعكست على نظام التربية الروحية الذي وضعه للجماعة، فكان هذا التنوّع عاملاً لوجود التوازن ما بين السلفية والصوفية، منع طغيان أحدهما على الآخر. ولذلك، وصف الجماعة بأنها: "دعوة سلفية... وحقيقة صوفية"، فكانت حركة سلفية بنكهة صوفية أو طريقة صوفية بنكهة سلفية.

هذا التوازن جعل سلفية الإمام البنا بعيدة من الجدل العقائدي العقيم والتعصب المذهبي الذميم مع الآخر المُختلف مذهبياً، وجعلها قريبة من الرؤية الجامعة الموحدة للمسلمين، والمنهجية الباحثة عن القواسم المشتركة للأمة. لذلك، كان من المؤسّسين لـ"دار التقريب بين المذاهب الإسلامية" في القاهرة، بمشاركة علماء الشيعة الإمامية، وكان منهجه في بناء العقيدة منهجاً عملياً سلوكياً يعتمد على الكتاب والسنة، قبل أن يختل هذا التوازن بعد استشهاده.

بعد اغتيال الإمام البنّا بثلاث سنوات، سقط نظام الملك فاروق على يد الجيش المصري بقيادة تنظيم "الضباط الأحرار" بزعامة جمال عبد الناصر، في ما عُرف بعد ذلك بثورة 23 تموز/يوليو 1952م، وبدأت حقبة الحكم الناصري. ولم تمضِ سنوات قليلة حتى وقع الصدام بين نظام الحكم الناصري وجماعة الإخوان المسلمين، بعدما اعتبرها النظام تهديداً لسلطته.

وشهدت مرحلتا الخمسينيات والستينيات حملات بطش دموية ضد الجماعة، أسفرت عن آلاف المعتقلين والضحايا وآلاف الهاربين من قمع النظام، الذين سافر معظمهم إلى المملكة العربية السعودية. وشهدت سوريا ظروفاً مُشابهة في السبعينيات والثمانينيات، عندما وقع الصدام بين نظام الحكم البعثي والإخوان المسلمين، فهاجر الكثير من قياداتهم وكوادرهم من سوريا إلى السعودية، وفتحت المملكة أبوابها للإخوان المسلمين من البلدين وغيرهما ليندمجوا في مجالات العمل، لا سيما التعليم المدرسي والجماعي، وتحالف التياران - الوهابي والإخواني - ضد عدو مشترك هو القومية العربية ممثلة بالناصرية في مصر والبعثية في سوريا.

هذا الالتقاء بين التيارين كان في إطار محاولة نظام الحكم السعودي استيعاب جماعة الإخوان المسلمين داخل عباءته الوهابية، لخدمة مشروعه في احتكار تمثيل الإسلام السُني، والنطق باسم "أهل السنة والجماعة"، والتفرّد بزعامة الأمة العربية والإسلامية، ومناكفة أنظمة الحكم العربية المنافسة لزعامتها في مصر الناصرية وسوريا البعثية، وكذلك في إطار محاولات الاختراق الفكري المتبادل بين التيارين الإسلاميين المركزيين.

محاولات الاستيعاب والاختراق لم تنجح بشكل كامل، ولكن التقاء التيارين الوهابي والإخواني ساهم في حدوث ظاهرتين مهمتين، هما "تسلّف الإخوان" و"تأخون السلفية". برزت ظاهرة "تسلُّف الإخوان" من خلال تأثرهم بالمضمون العقائدي والفقهي السلفي الوهابي، من دون أن يُغيّروا من المضمون الحركي الفكري والسياسي للجماعة. 

هذا التأثر كان ولا زال واضحاً في تراجع المذهب الأشعري لصالح السلفي على مستوى العقيدة، وتراجع الأخذ بالمذاهب الفقهية الثلاثة لصالح الحنبلي، والتشدد في لبس النقاب وفي تحريم أنواع من الآداب والفنون، وخصوصاً الموسيقى، بعد الانفتاح عليها، والتمسّك بإطلاق اللحى بعد التساهل في تقصيرها، والأخذ بفقه التضييق على أهل الذمة بعد تقبلهم، والتطرف في الموقف من الشيعة بعد فقه التقريب للإمام البنا... أما ظاهرة "تأخون السلفية"، فقد برزت من خلال تأثر الوهابيين بالمضمون الحركي الفكري والسياسي الإخواني، من دون أن يُغيّروا من المضمون العقائدي والفقهي للتيار الوهابي.

هذا التأثر كان ولا زال واضحاً في المملكة، من خلال الدعوة إلى الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والمناداة بالحقوق الدستورية للشعب، وتطبيق مبدأ الشورى المُلزِمة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، ومحاربة الفساد المالي والإداري، والتخلّص من الاستبداد السياسي والديني... وقد أنتجت ظاهرتا "التسلُّف" و"التأخون" تياري "القاعدة" و"الصحوة".

تيارا "القاعدة" و"الصحوة" هما نتاج مشترك بين التيارين الإسلاميين الوهابي والإخواني، فتيار "القاعدة" أو السلفية الجهادية وُلد بعدما تلاقحت العقيدة السلفية الوهابية، ممثلةً بأسامة بن لادن، بالفكر الإخواني الحركي والسياسي بصورته المتطرفة القطبية، المستلخص من كتاب "معالم في الطريق" للمفكر الإسلامي سيد قطب، ممثلاً بأيمن الظواهري، فكان نتاج هذا التزاوج نشأة تنظيم "القاعدة" الذي فرّخ العديد من التنظيمات، مثل "داعش" و"النصرة" وغيرهما. 

أما تيار "الصحوة" أو صحوة بلاد الحرمين، فقد وُلد بعدما تلاقحت العقيدة السلفية الوهابية بالفكر الإخواني الحركي والسياسي بصورته المعتدلة التي رسمها المرشد العام الثاني للجماعة المستشار حسن الهضيبي في كتابه "دعاة لا قضاة"، محاولاً إعادة الجماعة إلى فكر مؤسسها البنا بعد هيمنة القطبية عليها.

ومن رموز تيار الصحوة في المملكة العلماء: سلمان العودة، وسفر الحوالي، وسعد البريك، وعوض القرني، ومحسن العواجي، وآخرون غيرهم، ومعهم تيار شبابي سعودي يتبنى المنهج الإسلامي الوسطي المعتدل، ويدمج بين التمسك بالإسلام والمبادئ الليبرالية، فكان لوجود تياري "القاعدة" و"الصحوة" كمعارضين للنظام السعودي الحاكم على يمين تياره الوهابي المركزي المتحالف مع السلطة ويساره، مُبرراً للملكة لمهاجمة الجماعة وتحميلها مسؤولية وجودهما، ومدعاة لتعميق حالة الصراع والصدام بينهما.

تعميق حالة الصراع بين المملكة والجماعة زاد أثناء ثورات "الربيع العربي"، إذ وقفت المملكة إجمالاً ضد تلك الثورات، باستثناء سوريا، حيث اشتركت مع الإخوان في دعم "الثورة" فيها، كما اتفقوا سابقاً على دعم "الجهاد" في أفغانستان، ولكنّ مساحة الخلاف كانت واسعة إلى درجة التناقض في بلدان عربية أُخرى، وخصوصاً مصر، وبالتحديد عندما انتُخِب الدكتور محمد مرسي رئيساً لمصر، فأصبحت الدّولة السعودية أمام تهديد خطير لنموذجها الوهابي المُحتكِر للإسلام من النموذج المصري الإخواني الذي يقف على الأرضية الإسلامية السنية نفسها ويزاحمها على لقب "أهل السنّة والجماعة".

وإذا ما كُتِب له النجاح، فقد يُشكِل بديلاً للنموذج السعودي الوهابي المتطرف دينياً والمستبد سياسياً. وإذا كانت المملكة في السابق لم تجد صعوبة في تشويه النموذج الإيراني الثوري للدولة الإسلامية، بحملات تكفير وتشويه مذهبية ضد الشيعة، فإنها ستجد صعوبة بالغة في تشويه النموذج المصري الإخواني للدولة الإسلامية، باعتباره نموذجاً سُنياً، وهو ما دفع النظام السعودي إلى أن يكون أول المباركين لعزل الرئيس الراحل محمد مُرسي، وأول المهنئين بقدوم النظام الجديد القديم. وفي هذا السياق، جاء بيان "هيئة كبار العلماء" في السعودية في تجريم الإخوان المسلمين.

بيان "هيئة كبار العلماء" في السعودية الذي جرّم الإخوان المسلمين، والذي صدر بصورة فتوى دينية تُحذِّر من الجماعة وتدعو إلى عدم الانتماء إليها أو التعاطف معها، باعتبارها "جماعة إرهابية منحرفة عن منهج الإسلام"، وتتهمها بـ"إثارة الفتن وزعزعة التعايش في الوطن الواحد"، وبأنها "تصف المجتمعات الإسلامية بالجاهلية، وتخرج جماعات إرهابية متطرفة"، هذا البيان أو الفتوى يأتي في سياق الصراع على تمثيل الإسلام، وبعد عجز النظام السعودي على مدار سنوات طويلة عن استيعاب الإخوان المسلمين تحت عباءته، أو توظيفهم لخدمته، أو إذابتهم عبر اختراقهم. وهي اتهامات تنسجم والمثل القائل: "رمتني بدائها وانسلّت"، فكل ما ورد في هذه الفتوى هو أهلها وصاحبتها، وهم أصحاب أكبر تراث تكفيري في تاريخ الإسلام بعد الخوارج، وهم الذين أقاموا دولتهم على تكفير المجتمعات الإسلامية التي لا تعتنق مذهبهم، ثم غزوهم، فقتلوا رجالهم، ونهبوا ثرواتهم، وسبوا نساءهم.

هكذا فعلوا في كل مكان وصلوا إليه في الجزيرة العربية والعراق والشام، وهكذا فعل من اعتنق مذهبهم وسار على دربهم، من "القاعدة" و"داعش" وأخواتهما، وهكذا تنزلق دولتهم إلى قاع الفجور في الخصومة مع إخوانهم المسلمين، وهكذا تنزلق إلى الدرك الأسفل من التبعية والولاء لأعداء الأمة من الأميركيين والصهاينة.