هل تتغيّر قواعد الاشتباك بين حركة "النهضة" التونسية والمنظومة القديمة؟
"النهضة" المستقبلية قد تغيّر من توجّهاتها العامة لجهة التعامل مع المكوّنات السياسية في البلاد وبخاصةٍ الحزب الدستوري الحرّ.
لم تكن العلاقة بين حركة "النهضة" والمنظومة الحاكمة في تونس منذ الاستقلال، ممثّلةً بالحزب الاشتراكي الدستوري أو التجمع الدستوري، في عهد الرئيس الراحل بن علي، علاقةً وديّةً أبداً. وحتى العدد القليل من سنوات الهدنة في بعض الفترات كان مردّه ظرفيّاتٌ داخليةٌ أو دوليةٌ طارئةٌ سرعان ما تلاشت وأعادت الخصمين إلى مربّع الصِّدام الذي تمحور في كلّ مرّةٍ حول رغبة حركة الاتجاه الإسلامي أو حركة النهضة في ما بعد، في تذوّق طعم السلطة في حين ترفض منظومة الحكم بأجهزتها الواضحة والمستترة أن "تدنّس" التجربة الحداثية المدنية للدولة التونسية بشوائب التيار الإسلامي، المناقض في فتراتٍ كثيرة، للثوابت التي أُنشئت عليها الدولة التونسية الناشئة.
أوجه الصراع كانت كثيرةً وسرعان ما انتهت بحبس أو إبعاد وحتى قتل محسوبين على التيار النهضوي الإسلامي، إلى أن جاءت فترة الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، الذي قرّر استئصال الوجود المادي والفكري والثقافي للاتجاه الإسلامي.
فترة ما بعد الثورة
إنّ المتابع لتصريحات قيادات الصف الأوّل في حركة "النهضة" إبّان الفوز الكبير والكاسح لحزبهم في أوّل انتخاباتٍ بعد سقوط نظام بن علي، لا يشعر بأن الحركة الإسلامية كانت تنوي التطبيع مع المنظومة القديمة، بل إنها لم تكن ترفض منع من يمثّل هذه المنظومة من ممارسة السياسة لعقدٍ كاملٍ وحتى أكثر من ذلك إن أمكن.
كانت "النهضة" تعتقد أنها ستحكم البلاد بمجرد فوزها في الانتخابات النيابية أو التأسيسية، لكن نشوة الانتصار سرعان ما خفتت عندما تلمّست الحركة صعوبة الحكم وتغلغل الدولة العميقة في كلّ مفاصل البلاد إضافةً إلى وجود نقاباتٍ قويةً وقوى إقليميةً ودولية تتربّص بكل تيارٍ أو حزبٍ إسلاميٍّ وتطارده حتى لا يهنأ بالسلطة.
لقد كانت الدولة العميقة، التي هي في الحقيقة تدين بالولاء للمنظومة القديمة مهما كانت عناوينها ومسميّاتها قويةً ومتغلغلةً في تونس، إذ توقّع خبراء المستبليات بسرعة أن "النهضة" لن تستطيع الاستفراد بحكم تونس إلى أن جاء اغتيال الشهيدين شكري بلعيد، ومحمد البراهمي، ليؤكّد هذه التوقّعات، بأن لا مجال لأن تتصدر "النهضة" المشهد التونسي.
وما بين كل هذه الأحداث كانت المنظومة القديمة تُعيد تجميع صفوفها عبر حزبٍ جديدٍ هو "نداء تونس". حزبٌ لا يختلف في شيءٍ عن حزب الدستور الذي حكم تونس لنحو 6 عقودٍ الاّ في تفاصيلَ صغيرةٍ فرضتها الظروف المستجدّة إمّا لجهة المكوّنات والرؤية والتنظيم، فيمكن القول أن حزب "الدستور" قد عاد إلى نشاطه ومعه أُعيدت إلى السطح العداوة التاريخية بينه وبين حركة "النهضة".
وكان الشارع السياسي التونسي خلال عامي 2012 و 2013 يعيش على وقع هذا الصراع الذي كاد يتحوّل إلى حربٍ أهليّةٍ أو حتى إلى أعمال عنفٍ في أفضل الحالات. وقد حصلت فعلاً صداماتٌ متفرّقةٌ بين أنصار الحزبين خلّفت إحداها قتيلاً في محافظة تطاوين جنوب البلاد.
نجحت تونس لأسبابٍ يطول شرحها في تجاوز هذا الاحتكاك بين "النهضة" والمنظومة القديمة وجنّبت البلاد السيناريو الأسوأ وانتهى الأمر بفوزٍ مريحٍ لـ"نداء تونس" بالانتخابات التشريعية والرئاسية واستحوذ على كل مراكز القرار في البلاد. طُرح على الطاولة آنذاك، وبتحريضٍ داخليٍّ وخارجيٍّ خيارُ إبعاد "النهضة" عن دائرة الحكم في مرحلةٍ أولى، ثم عن المشهد التونسي تدريجيّاً. وفي الوقت الذي كان فيه هذا السيناريو هو الأقرب إلى التطبيق، بُعث نورٌ في صدور المتخاصمين ووُلد "التوافق" الذي لم يشهد التاريخ المعاصر مثله بين الحركة الإسلامية والمنظومة القديمة الجديدة المتحكّمة فعلاً بوسائل الإنتاج الفكري والاقتصادي والإعلامي والثقافي والمالي على مدى عقودٍ ودون انقطاع.
سواءٌ اختارت المنظومة القديمة الهدنةَ مع "النهضة" أم أن الأخيرة هي من اختارت الهدنة مع هذه المنظومة حفاظاً على وجودها وكينونتها، فالأمر لا يختلف كثيراً. الأهم هو أن تونس اتّقت شرّ مارد الاستقطاب الثنائي الذي نام لبضعة سنوات...
صعود الحزب الدستوري الحرّ و استفادته من فشل تجربة التوافق
على الجانب الآخر، هناك صقرٌ من صقور المنظومة القديمة يراقب هذا التوافق ويحاول اختراقه وينتظر أن تبدأ سلبيّاته بالظهور للاستفادة سياسياً من فشله. وكان له ما أراد.
عبير موسي تصنّف حسب التصنيفات التقليدية للسياسة على أنها أقصى يمين المنظومة القديمة. كانت تحشد الغاضبين من حصول هذا التوافق محاولةً إقناعهم بأن لا صلاح لتونس إلاّ بالقضاء نهائياً على حركة النهضة. الحزب الدستوري الحرّ الذي تتزعّمه عبير موسي، حاز مرتبة متقدّمة في انتخابات 2019، وها هو اليوم في المرتبة الأولى في كل استطلاعات الرأي.
ربما حاولت "النهضة" جسّ نبض هذا الحزب الصاعد سواء لإعادة "التوافق معه" أو لشقّ صفوفه أو للتحريض عليه، لكنها وجدت أنه لا حلّ قابلٌ للتطبيق. فخطاب هذا الحزب يذكّر "النهضة" بخطاب المنظومة القديمة عندما كانت في عنفوان قوّتها. لذلك اختار زعماء "النهضة" تتفيه هذا الحزب إلى حين وذلك عبر الحديث أنه لا مكان لمثل هذه الأحزاب "الفاشية" في تونس، وأن البلاد لن تعود إلى مربّع الاستبداد.
منظّرو "النهضة" واستراتيجيّيها يعلمون أن الصِّدام قادمٌ لا محالة، فأرقام استطلاعات الرأي وإن كانت غير دقيقةٍ، ليست خاطئةً تماماً، وبعمليةٍ حسابيةٍ بسيطةٍ فالفوز الكاسح لنداء تونس سنة 2014 قد يتكرّر مع الحزب الدستوري الحرّ سنة 2024 خاصةً وأنهما ينهلان من نفس الخزان الانتخابي. ولكن كيف تفكّر "النهضة" الآن حيال النَفَس الإقصائي لهذا الحزب؟ خاصةً أنه لو تكرّرت الظروف الإقليمية ذاتها التي حدثت سنة 2013 والتي أطاحت بالإسلاميين في مصر وتزامنت مع وجود حزبٍ كالحزب الدستوري الحرّ في تونس، للاقت "النهضة" المصير ذاته الذي ساد أثناء حكم الرئيس الراحل محمد مرسي.
هنا يجب أن نضع على طاولة التحليل الصورة التي ستكون عليها "النهضة" بعد سنتين من الآن أو أقل. فأيام الغنوشي على رأس "النهضة" لن تطول سواءً بسبب المعارضة المتنامية لوجوده كرئيسٍ لـ"النهضة" أو حتى لأسبابٍ صحيّة. ويُعتبر القياديّ علي العريض، أو القياديّ السابق حمادي الجبالي، وعبد اللطيف المكّي، مرشّحَيْن توافقيّين محتملَيْن في صورة الاتفاق على تعويض الغنوشي.
هذه القيادات المرشّحة لخلافة الغنوشي رغم تماهيها على مضضٍ لبضع سنوات مع خطاب التوافق والتعايش والتهدئة الذي انتهجته نهضة الغنوشي، إلا أنها تُصنَّف من الصقور داخل الحركة ولعلّ المتتبّع لخطابها خلال السنوات الماضية وخاصةً في الفترة الأخيرة، يمكنه أن يستنتج أن غضب بعضها على القيادة الحالية يعود إلى ما اعتبروه "تطبيعاً " مع المنظومة القديمة، ما أفقد النهضة "هويتها " و"تاريخها النضالي" كما صرّح بذلك أكثر من قيادي بينهم المستقيل عبد الحميد الجلاصي.
شكل المعركة المستقبلية بين النهضة و المنظومة القديمة
"النهضة" المستقبلية قد تغيّر إذن من توجّهاتها العامة لجهة التعامل مع المكوّنات السياسية في البلاد وبخاصةٍ الحزب الدستوري الحرّ. وقد يتأكّد هذا التوجه الجديد إذا ما خسرت "النهضة" الانتخابات المقبلة وتحوّلت إلى حزبٍ معارضٍ للمرة الأولى منذ 2011.
عنصرٌ آخر قد يضعه قياديو النهضة بالحسبان وهو صعود ائتلافٍ سياسيٍّ من رحم "النهضة" سمّى نفسه "ائتلاف الكرامة" يحمل لواء المعاداة للمنظومة القديمة، ما مكّنه من حصد عددٍ لا بأس به من المقاعد في البرلمان. ويُقال إن أغلبية ناخبيه، إن لم نقل كلّهم، هم في الحقيقة جزءٌ من الخزّان الانتخابي الغاضب على حركة النهضة ومن مهادنتها للمنظومة القديمة.
فـ"النهضة" مقبلةٌ على صراعٍ حقيقيٍّ مع المنظومة القديمة، بوجهها الاستئصالي والمتطرّف هذه المرة. صراعٌ قد يهدّد وجود "النهضة" في الحياة السياسية، وقد يعود بقياداتها خلف القضبان في سيناريو مستبعدٍ ولكنه قد يكون حقيقةً وواقعاً إذا ما توفّرت الظروف الإقليمية و المحلية الملائمة.
لا تبدو سماء الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في تونس صافيةً على المدى المتوسط حتى القريب. فاليمين ممثَّلاً بالمنظومة القديمة وبصقور "النهضة" هو بصددِ الفوز بأراضٍ جديدةٍ حتّمتها مستجداتٌ عديدةٌ، ميّزت تونس ما بعد الثورة وكأن حتميّة الصراع بين التيارين الإسلامي والدستوري قد كُتب لها أن تكون أبديّةً وأن يُقصي أحدهما الآخر.
ولكن هذه المرة قد تتغيّر قواعد الاشباك بين الطرفين، فـ"النهضة" أصبحت أقوى وأكثر تاثيراً بالمقارنة مع ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. أما المنظومة القديمة والتي يمثّلها الحزب الدستوري الحرّ، ورغم ما استرجعته من قوّةٍ وتاثيرٍ إلا أنها خسرت المخالب التي كانت تمتلكها خلال فترتَيْ حكم بن علي وبورقيبة، ما يجعل أي معركةٍ مستقبليةٍ بين الطرفين أكثر شراسةً وخطورةً على استقرار البلاد وأمنها. إذ أن الصراع المستقبلي لن يكون صراعاً قوياً ضد ضعيفٍ كما كان سابقاً، بل سيكون صراعاً متكافئاً وطويل الأمد.