وثيقة إعلان الاستقلال.. البوصلة والخيار الفلسطيني
32 عاماً على إعلان وثيقة الاستقلال، عبرت خلالها القضية الوطنية للشعب الفلسطيني العديد من المحطات الكبرى وتجاوزت الكثير من المنعطفات والتحديات.
مازال دويّ الإعلان التاريخي الذي أطلقه الزعيم الراحل ياسر عرفات، في العاصمة الجزائرية في دورة المجلس الوطني التي انعقدت قبل 32 عاماً في 15 تشرين الثاني/نوفمبر يتردد خلال الاحتفالات التي ينظمّها الشعب الفلسطيني كجزءٍ من تأكيد طموحاته في تجسيد إعلان الاستقلال وتثبيت هذا التاريخ كحقيقة سياسية ومادية تقضي بدحر الاحتلال الإسرائيلي عن الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان 1967.
رحل أبو عمار بعد 16 عاماً من هذا الإعلان بعملية اغتيال مدبّرة باستخدام تركيبة من المواد السامة الفتاكة وفق التقارير الطبية وخيوط المخطط الإسرائيلي الذي أعدّ لتنفيذ هذا الاغتيال بعد اندلاع الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى). آنذاك، فُرض على الرئيس الراحل الحصار الخانق وقام العدوّ بتحميله المسؤولية الكاملة عن تصاعد الانتفاضة ورفض الرضوخ للأمر الواقع الذي حاولت حكومة الاحتلال تمريره من خلال جولات التفاوض في "كامب ديفيد" و"واي ريفر".
32 عاماً على إعلان وثيقة الاستقلال، عبرت خلالها القضية الوطنية للشعب الفلسطيني العديد من المحطات الكبرى وتجاوزت الكثير من المنعطفات والتحديات. توالت الأحداث وشهدت الانتفاضة الشعبية الأولى ولادتها ونشأت حركات المقاومة الإسلامية ورُسم مسار "أوسلو" وتشكلت السلطة واندلعت انتفاضة الأقصى وجرت الانتخابات الرئاسية والتشريعية واغتيل العديد من القادة الشهداء من زعماء الكفاح الفلسطيني.
وشهدت البلاد مأساة الانقسام السياسي الفلسطيني والعدوان المتكرر على قطاع غزة وصولاً إلى الواقع الراهن الذي حمل الكثير من المتغيرات في السنوات الـ4 الأخيرة حيث حاولت إدراة الرئيس الأميركي ترامب تنفيذ مخططاتها لتصفية القضية الفلسطينية عبر ما يُسمّى "صفقة القرن" وحاولت حكومة نتنياهو الحصول على أقصى المكاسب التي تعزز هيمنتها في المنطقه واُعيدرسم خارطة الصراع على النحو الذي يحقق تفكيك العقدة الفلسطينية ويكرّس واقع الاحتلال وضُمّت الأراضي الفلسطينية وأُلغيت الثوابت والحقوق العادلة للشعب الفلسطيني.
الشعب الفلسطيني قدّم أغلى التضحيات على مدار السنوات الممتدة منذ إعلان الاستقلال وحتى اليوم ودفع فاتورة هذه المتغيرات وواصل الصمود والتمسك بحقوقه الوطنية المشروعة وما زال يواجه "صفقة القرن" وتداعياتها السياسية وماترتب عليها من وقائع على الأرض.
الشعب الفلسطيني يدرك حقيقة الخطر الداهم الذي يتهدد قضيته الوطنية والمتمثل باستمرار الانقسام الداخلي وغياب الوحدة الوطنية وما ينجم عن هذه الحالة من انهيارات في القوة الذاتية الفلسطينية أمام الاستهداف المباشر من الحلف المعادي والذي لن يتوقف عن محاولات فرض الأمر الواقع محقّقاً مطامعه الاستعمارية التوسعية.
الحقيقة بشأن الحوار ؟
بعد موجة التهافت إلى التطبيع والهجوم الأميريكي-الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني ومحاصرته وسلسلة الخطوات العملية التي تم تنفيذها للمسّ بالشرعية والحقوق الفلسطينية والسعي لتكريس المشروع الاستيطاني والضم وشرعنة التوسع بقوة الأمر الواقع
وبعد تراجع الموقف الرسمي العربي تحت ضغط التوجه الأميركي لحرف البوصلة عن مسارها، أعاد الشعب الفلسطيني تجديد الرهان على فرصة الخروج من أزمة الانقسام والتشرذم الداخلي والانطلاق مجدداً لإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني والوحدة الوطنية وإجراء الانتخابات الشاملة لمؤسسات السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية والاستعداد لمواجهة التحديات المصيرية التي تهدد مستقبل المشروع الوطني والثوابت السياسية التي كرّستها وثيقة إعلان الاستقلال كحقيقة راسخة في الحياة الفلسطينية.
ولعل هذا الرهان للخلاص من كابوس الانقسام وآثاره المدمرة قد استند بالأساس إلى العوامل المحيطة بالوضع الفلسطيني وما يترتب عليها من مخاطر، إضافةً إلى الأجواء الإيجابية التي رافقت اللقاءات والحوارات القيادية بين حركتي "فتح" و"حماس" وما أعقب اجتماع الأمناء العامين للفصائل من مؤشرات في الارتقاء إلى مستوى الخطاب الوطني على حساب البرامج والمصالح الحزبية الفصائلية والأجندات الخارجية.
إلى اليوم، لا يوجد جواب واضح وصريح ولا تتوفر الإرادة لمكاشفة الشعب الفلسطيني بالحقيقة عن أسباب المراوحة وتوقف مسار الحوار وعن العقبات التي تُعيق طريق هذا الحوار، مع العلم أن التحالف المعادي بقيادة إدارة ترامب ونتنياهو لم يتوقف أو يتراجع عن سعيه لاستكمال بناء المعادلة الجديدة للصراع في المنطقة واستثمار الوقت وكل الفرص من أجل فرض قواعد الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة وفي الإقليم.
الجواب المفقود حتى الآن أعاد طرح الكثير من التقديرات والتي كان من أبرزها التوافق الضمني بين حركتي "فتح" و"حماس" بانتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية والآفاق التي ستترتب على فوز أحد المرشحين وانعكاساتها في السياسة الخارجية للإدارة المقبلة للبيت الأبيض.
ولهذا التقدير الذي قد يرتقي إلى مستوى الحقيقة، هناك الكثير من الارتدادات التي يمكن أن تعود بالمزيد من الخسائر على الشعب الفلسطيني بفعل المبالغة في الرهان على السياسة الأميركية للبحث في فرص التسويه السياسية والإيهام بإمكانية تناقض المصالح الإسرائيلية مع أي من الحزبين اللذين يتشاركان صناعة القرار الرسمي الأميركي منذ عقود طويلة.
كذلك فإن تغليب الاعتبارات الخارجية على حساب العامل الذاتي والأولويات الفلسطينية وضرورات إعادة بناء الوضع الداخلي سيعني بالضرورة البقاء في نفس الدائرة التي أثقلت الأعباء على الشعب الفلسطيني وألحقت المزيد من الاختلال في ميزان المواجهة مع الاحتلال وأنتجت خسائر جسيمة في الزمن الفلسطيني للاقتراب من تحقيق الأهداف الوطنية التي حملتها وثيقة إعلان الاستقلال منذ أكثر من ثلاثة عقود.
إنّ المسؤولية الوطنية المطلوبة تتطلب من الجميع مغادرة مربع إدراة الانقسام، والتعايش مع وقائعه والنظر بدرجة أعلى من الأهمية إلى أولوية المصلحة العليا للشعب الفلسطيني بل والإعتذار على تناقض الخيارات الفصائلية والحسابات الحزبية التي دفع وما زال يدفع الشعب الفلسطيني ثمنها باهظاً على كل المستويات.
يجدر الذهاب إلى سياسة المكاشفة والوضوح والمراهنة على إرادة الشعب التي تشكل الضمانة الحاسمة للتغيير ولتعزيز مكانة المشروع الوطني التحرري ومراكمة القوة المطلوبة من أجل التصدي لمحاولات المسّ والعبث بالحقوق العادلة والمشروعة التي لايمكن أن تسقط بالتقادم أو تتبدل مع أية معادلات وتحالفات سياسية عابرة على المنطقة والعالم.
إعلان وثيقة الاستقلال حقيقةٌ يمكن تقريب ساعة تجسيدها على الأرض ولاخيار آخر أمام الاحتلال الإسرائيلي سوى التسليم والرحيل عن الأرض الفلسطينية والعربية التي تستحق الحياة عليها المزيد من التضحيات والمقاومة.