من الذي ذبح معلّم التاريخ الفرنسي؟!
الأكذوبة الصهيونية أصبحت في فرنسا وأوروبا بقرةً مُقدّسة، من يقترب منها يُحاكَم ويُجرَّم ويُشوَّه، أما الإساءة إلى خير البشرية وأعظم الرسل محمد (ص)، فحرية رأي وتعبير.
في مثل هذه الأيام قبل عامين، مات المؤرخ الفرنسي روبير فوريسون، معزولاً مُهملاً في منزله بمدينة فيشي، فوريسون صُنّف فرنسياً من الإنكاريين الذين شككوا في الرواية الصهيونية للمحرقة اليهودية (الهولوكوست)، والإنكاريون وصمة سلبية في فرنسا تتناقض مع الحقيقة، فلم يُنكر هؤلاء المؤرخون المحرقة بالكامل، ولكنهم توصّلوا بعد المراجعة التاريخية والبحث العلمي إلى نتائج تؤكّد حجم التضخيم والمبالغة في عدد القتلى اليهود، وإثبات عدم وجود غرف الغاز.
وهذا كان كافياً لأن يُقدَّم فوريسون إلى المحاكمة بتهمة إنكار المحرقة، ويصدر الحكم عليه بالسجن والغرامة، ثم يُفصل من جامعة ليون، ثم تُمنع كتبه من التداول، وصولاً إلى الاعتداء عليه بالضرب المُبرح. وتبع كل ذلك حملة تشويه مكارثية عزلته عن المجتمع ألزمته بيته منذ عام 1990م، إلى أن مات مُحاصَراً منبوذاً في تشرين/أكتوبر 2018، شاهداً على زيف مبادئ العلمانية، وقيم الحرية في فرنسا، عندما يتعلّق الأمر برواية مُخالفة للرواية الصهيونية، لاسيما عندما تنجح الرواية في تحطيم أحد أصنام الفكرة الصهيونية.
مصير روبير فوريسون، طال عشرات المؤرخين والمفكرين الفرنسيين والغربيين، الذين عُلّقوا على صليب الحرية، وذُبحوا بسكين الديمقراطية، فقط لأنهم حطموا أحد الأصنام الصهيونية، فشككوا في الرواية الصهيونية للمحرقة، ومنهم الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي، والمؤرخ البريطاني ديفيد إيرفينج، والمؤرخ الأميركي آرثر بونز، ومن قبلهم الروائي الفرنسي لويس سيلين، الذي تنبأ بحملات التشويه التي ستنال مُحطمي الأصنام الصهيونية، وخاصة أكذوبة المحرقة، فقال: "إنَّ عالماً من الأحقاد سيُحرّض على العواء في وجه مُحطّم الأصنام"، وكتب فوريسون في كتابه (أكذوبة المحرقة اليهودية) مُعلّقاً على كلام سيلين :" إنه منذ أكثر من نصف قرن على تكهّن سيلين، ارتفع العواء أكثر فأكثر، ولم يتوّقف ولو للحظة واحدة ضد مُحطّمي الأصنام، أي المُراجعين الذين أصبحوا يوصَفون في فرنسا اليوم بالإنكاريين في حين أنهم لا ينكرون شيئاً سوى الأكذوبة".
الأكذوبة الصهيونية أصبحت في فرنسا وأوروبا بقرةً مُقدّسة، من يقترب منها يُحاكَم ويُجرَّم ويُشوَّه، أما الإساءة إلى خير البشرية وأعظم الرسل محمد (ص)، فحرية رأي وتعبير عند المؤسسة الفرنسية الرسمية وعلى رأسها إيمانويل ماكرون، رئيس الجمهورية الفرنسية الخامسة.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لا يكاد يترك فرصة يستطيع فيها أن يُسيء إلى الإسلام ويُهين المسلمين إلا واستغلّها، ومقتل معلّم التاريخ الفرنسي صاموئيل باتي، ذبحاً على يد طالب فرنسي مُسلم من أصل شيشاني، بعد توزيع المعلّم رسوماً مُسيئة للنبي محمد (ص) على طلابه، تُعَدّ فرصة ذهبية له، حرّض من خلالها ضد الإسلام مُدافعاً عن الحق في رسم وتوزيع الصور المُسيئة باعتبارها حرية رأي وحق تعبير، قائلاً: "لن نتخلّى عن الرسومات والكاريكاتيرات وإن تقهقر البعض".
ماكرون يُبرّر موقفه بأنه ينسجم مع قيم الجمهورية الفرنسية العلمانية، ومنها حرية الرأي، وهي قيمة جميلة وراقية، ولكنها تُطبَّق بانحياز ضد الإسلام والمسلمين، فهذه القيمة تتبخّر إذا كانت الحرية تُخالف الرواية الصهيونية، حتى لو راجعت حدثاً تاريخياً كالمحرقة يقبل الصدق والكذب، وحتى لو ناقشت قضية سياسية كالمقارنة بين الصهيونية والعنصرية تقبل الصواب والخطأ. وقيمة حرية الرأي والتعبير جميلة وراقية بشرط ألّا تتعدى على حقوق الآخرين أو تضرّ بهم – حسب كل قوانين الأرض – وهذا الشرط غير موجود في الرسوم المُسيئة التي تتعدى على حقوق المسلمين وتضُرّ بهم معنوياً لمساسها بأهم رموزهم الدينية.
يأتي دفاع ماكرون عن الرسوم المُسيئة بغرور الثورة الفرنسية، وغطرسة الامبراطورية الاستعمارية، واستعلاء الجمهورية العلمانية، تلك العلمانية المُتطرفة المُعادية للدّين، والمستهترة بمشاعر المتدينين، خاصة عندما يكون هذا الدّين الإسلام، ويكون المتديّنون المسلمون، فتُلغى حينئذٍ قيمة الحرية الشخصية، وهي أهم إنجازات العلمانية الأوروبية، وجوهر الفكر العلماني؛ بل وتتحوّل إلى اعتداء على الحرية الشخصية، فتُمنع مظاهر التديّن الإسلامي الفردية تحت مبرر منع الرموز الدينية وتحت هذا المُبرر تُنتهك الحريات الفردية فيُصادَر حق المرأة المسلمة في لبس الحجاب، وتُجبَر في المؤسسات التعليمية والحكومية على القيام بأعمال تُناقض قناعتها وحريتها، بينما فٌتح باب الحرية الشخصية أمامها على مصراعيه إذا أرادت أن تتعرّى أو تُقيم علاقات إباحية. والعلمانية المتطرفة في فرنسا تناقض القيم النظرية التي قامت عليها باحترام الاختلاف والتعددية والتنوّع، فلا تقبل الإسلام كدين مختلف وثقافة مُتميزة، وترفض المسلمين كأفراد مُختلفين وجماعة متميزة، داخل المجتمع الفرنسي رغم أن غالبيتهم العُظمى تلتزم بالقانون الفرنسي ومبدأ المواطنة بواجباتها وحقوقها، أمّا ظهور التطرف لدى بعضهم فصناعة ساهمت فرنسا العلمانية في إنتاجها.
التطرف صناعةٌ ساهمت فرنسا في إنتاجها ومعها كل الغرب الأوروبي والأميركي، بدءاً بـ"التطرف الصليبي" وصولاً إلى التطرف الصهيوني، مروراً بكل أنواع التطرف القومي والفاشي والنازي والعنصري والاستعماري، وذهبت ضحيته عشرات الملايين من البشر داخل أوروبا وخارجها، وكان نصيب الأسد من الضحايا خارج القارة البيضاء للمسلمين.
وبعد كل ذلك، يتحدث ماكرون عن أزمة التطرف الإسلامي بقوله : "إنَّ الإسلام يعيش اليوم أزمة في كل مكان"، فَصَدَقَ وهو كذوب، فهذه الأزمة كانت فرنسا والغرب شريكين في صناعتها، ووصولها إلى أوروبا، عندما نشأت مدفوعةً بجشع نهب البترول السعودي والخليجي، بغض النظر عن تمدد نموذج الإسلام السعودي الوهابي المتطرف في بلادها.
نخر النموذج الوهابي سوس التكفير والتفجير عقول عشرات الآلاف من الشباب المسلمين فحوّلهم إلى قنابل موقوتة تنتظر صاعق التفجير، عندما قامت مدفوعةً برغبة صهيونية متوّحشة بتدمير الوطن العربي لصالح الكيان الصهيوني بالسماح للآلاف منهم بالسفر والقتال في سوريا وغيرها. وعندما انتهت صلاحيتهم القتالية رُدّت بضاعتهم إليهم، ومن قبل ذلك، هذا ما اعترف به حاكم السعودية الجديد محمد بن سلمان من أن بلاده نشرت النموذج الوهابي في العالم لمواجهة النفوذ السوفياتي ثم الإيراني.
معلّم التاريخ الفرنسي ذُبح بسكين التطرف الذي صنعته بلاده بعلمانيتها المُتطرفة المُعادية للإسلام والرافضة للمسلمين، والتي ساهمت في صناعتها ونشر نموذج مُتطرف للإسلام أنتج "القاعدة" و"داعش" وأخواتهما.
هذا التطرف الذي تشرّبه صاموئيل باتي، خدعه وانقلب ضده. فجعله يعتقد أنَّ الإساءة لنبي الإسلام محمد (ص) هو حرية رأي، وأن تحقير معتقدات المسلمين هو حق تعبير، وأنَّ إهانة مشاعر المسلمين هي حرية شخصية. هذا التطرف هو الذي ذبحه، وهو الذي يعتبره رئيسه ماكرون قيمة ديمقراطية ومنهجاً لمحاربة التطرف والإرهاب، مُتجاهلاً حقيقة أنَّ الرسومات المُسيئة هي أعلى درجات التطرف وأخطر أنواع الإرهاب، بما تحمله من دلالات تطرّف ضد الإسلام، وبما ينجم عنها من إرهاب نفسي وفكري للمسلمين من خلال ترويعهم، وترهيب غير المسلمين بصورة المسلم المخيف.
وبعد كل ذلك وما سبق، من المفيد أن نسأل أنفسنا كمسلمين: ألم يكن هناك طريقة للدفاع عن الإسلام أفضل من الذبح؟! ماذا لو قمنا بحملة إعلامية باللغة الفرنسية توضح إنسانية الرسول (ص) ورحمة الإسلام؟! ولكي نُفكر بطريقة أفضل، دعنا نردّد قصيدة الشاعر المصري فاروق جويدة التي كتبها رداً على كتاب (آيات شيطانية) لسلمان رشدي قبل أكثر من ثلاثة عقود ومطلعها : "في زمن الردة والبُهتان... اكتب ما شئت ولا تخجل.. فالكل مُهان... واكفر ما شئت ولا تسأل... فالكل جبان". وختامها: "فمحمد باقٍ ما بقيت دنيا الرحمن.. وسيعلو صوت الله.. ولو كرهوا.. في كل زمان ومكان".