الحروب الافتراضية والأرواح الخفية: النزال القائم بين الولايات المتحدة والصين
النّزال السيبراني القائم بين الولايات المتحدة الأميركية وجمهورية الصين الشعبية هو نزال يرسم الفارق بين المسلك الشيوعي القومي الذي يحذو حذو ما تقرره أو ترسمه السياسات العليا للأمن القومي، مقابل سلوك الرأسمالي الذي يتصرف ضمن رؤية مادية فردية بحتة.
يشهد الناس منذ أن خلقوا ثقافة التضادّ بين السلام والحرب، فمن يوم نبي الله آدم وإلى يومنا هذا، كلّ من يتوهم حجماً أو نفوذاً، عنصراً أو جماعةً، يتوق إلى السلم مع البعض والعداء مع الآخر، فمن الحرب والعراك بالعصا إلى الضرب بالسكين، وبعدها السيف، ومن ثمَّ الرصاص، وصولاً إلى القذائف والصواريخ، عاش عالمنا كثيراً من الرعب والقلق واللاأمان.
اليوم، الحرب باتت مختلفة. لا زالت الدماء هدفاً لا بدَّ منه، إلا أنّ من يخوض الدمار ليس ضرورياً امتلاكه صواريخ أو طائرات وما شابه. يكفي لهذه الحرب جنود من وراء حواسيبهم، ومرتزقة يجنّدون إلكترونياً في حروب افتراضية من وراء شاشات ولوحات مفاتيح. إنها الحرب الإلكترونية التي تُعرف بالحرب السيبرانية.
الحرب السيبرانية أو الحرب الافتراضية هي حرب إلكترونية بحتة، وهي أبرز معالم الصراعات السياسية والتجارية بين الدول. من الناحية النظرية، الحرب السيبرانية تعني الأنشطة الخبيثة من خلال الشبكة العنكبوتية – الإنترنت – المدعومة من جماعة أو دولة ما، والتي تستهدف البنى التحتية أو المنشآت والمؤسسات الحكومية والشبكات الصناعية والأبحاث، وهي قادرة على تعطيل تشغيل البنى التحتية الحيوية، مع الحدّ من خطر اندلاع صراع عسكريّ مباشر.
في العام 2004، شنّت الولايات المتحدة الأميركية هجوماً إلكترونياً أدى إلى إحداث شلل في نطاق واسع في ليبيا. وفي العام 2010، قامت الولايات المتحدة، بالتعاون مع الكيان الصهيوني، بتنفيذ هجوم إلكتروني مشترك عبر فيروس عرف آنذاك بـ"ستكس نت"، واستهدف منشآت نووية إيرانية، وتسبّب بتعطيل حوالى ألف جهاز طرد مركزي، وسبّب شبه شلل للبرنامج النووي الإيراني.
ومع بداية آذار/مارس 2019، شهدت فنزويلا انقطاعاً واسعاً للكهرباء، تأثرت به 18 ولاية من أصل 23، ما أحدث حالة من الشلل في المواصلات والرعاية الطبية والاتصالات والبنية التحتية في هذا البلد.
في المقابل، اتّهم الرئيس الفنزويلي مادورو الولايات المتحدة بتخطيطها لـ"هجوم سيبراني" على نظام الطاقة في بلاده، بهدف خلق حالة من الفوضى وإجبار الحكومة على التنحّي. ويعتقد بعض المحلّلين أنّ الهجمات السيبرانية ضد فنزويلا قد تكون خياراً أفضل بالنسبة إلى الولايات المتحدة، في غياب تدخّل عسكري مباشر.
لقد بات معروفاً أنّ الجهود الأميركية في الجهوزية الإلكترونيَّة أو ما يمكننا أن نسمّيه عمليات التسلّح السيبرانية لم تألُ جهداً، فباتت قيادة الحرب السيبرانية كقيادة مستقلّة في المستوى الأول، بعد أن كانت القيادة تتبع الاستراتيجية الأميركية، وشكّلت لها هرمية قيادية مؤلفة من رئيس الجمهورية ووزير الدفاع وقائد العمليات الحربية.
وكما يحصل في المناورات العسكرية التقليدية، قام الجيش الأميركي بسبع مناورات واسعة في مجال الحرب السيبرانية، استهدف 3 منها الصين. وفي العام 2018، قام الرئيس الأميركي بإلغاء "الأمر الرئاسي رقم 20"(PPD—20)الذي وقّعه سلفه باراك أوباما، ليسمح للجيش بنشر أسلحة سيبرانية متطورة بحرية أكثر، ومن دون التعرض لعراقيل الكونغرس والمخابرات.
تحاول الولايات المتّحدة الأميركيّة من خلال استعراضاتها الافتراضية تعويض ما تخسره يومياً من نفوذها بالنقد والعسكر والبيانات. وبعد أن بات دولارها مرهوناً بإشارة البدء الحقيقي باستخدامات العملة الإلكترونية - وخصوصاً في تعاملات التجارة مع المارد الصيني - وتراجع نفوذها العسكري في العالم، نظراً إلى كلفته المالية والشعبية الداخلية، وباتت الصين على مقربة من السيطرة العالمية على البيانات، بتولّيها تطبيق شبكات 5G. ، وبحيث ترتبط مكامن النفوذ الثلاثة بالشبكة العنكبوتية، تجد الولايات المتحدة الأميركية دافعاً للدفاع الوجودي لقيادتها العالمية، بتفعيل أنشطتها السيبرانية العدوانية على خصومها من الدول، وخصوصاً جمهورية الصين الشعبية.
من جهة أخرى، تجهد الجمهورية الشعبية الصينية في احتواء أي عبثٍ سيبرانيٍ هنا أو هناك، وهو ما يفسر اعتمادها على العمالة البشرية، عوضاً عن الآلات ذات التحكّم الذاتي في الكثير من الأماكن الحسّاسة.
وعلى صعيدٍ متصل، تنشط في الصين مواقع وتطبيقات صينية خاصة، ما يمنع تسرب البيانات المجتمعية بشكل كبير، وهو ما دفع الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى إعلان الحرب على غزو شركة "تيك توك" للمجتمع الأميركيّ، ومحاولات حثّه على عدم استخدامها، لكنه باء بالفشل.
إمكانيّة احتواء الاعتداءات السّيبرانية المتكررة من قبل الصين، وهجومها المتّصل في ملعب جمع البيانات من خلال شبكات "5G"، المستحدثة، وترفّعها عن لعب الصغار في الفضاء السيبراني، ودعواتها المتكررة إلى سلام عالمي سيبراني، يقابله جنونٌ أميركي يرى نفسه خاسراً في الملاعب الواقعية والافتراضية كافة.
من هنا، نرى أنّ النّزال السيبراني القائم بين الولايات المتحدة الأميركية وجمهورية الصين الشعبية هو نزال يرسم الفارق بين المسلك الشيوعي القومي الذي يحذو حذو ما تقرره أو ترسمه السياسات العليا للأمن القومي، مقابل سلوك الرأسمالي الذي يتصرف ضمن رؤية مادية فردية بحتة، وليست جماعيّة أو قوميّة.